مقالات

عاشوراء في لوحة الصبر الزينبية

في قصر الكوفة، بعد ملحمة كربلاء، وبعدما أُدخلت السيدة زينب بنت أمير المؤمنين عليه السلام مع سائر السبايا، سألها عبيد الله ابن زياد: كيف رأيتِ فعلَ الله بأهل بيتك؟ فأجابت عليها السلام ، وهي تستحضر كلَّ مأساة كربلاء: “ما رأيت إلا جميلاً1.

إنَّ ما رأته السيدة زينب عليها السلام هو قتل الإمام الحسين عليه السلام وأصحابه، وأهل بيته الذين منهم بعض ولدها.
إنَّ ما رأته السيدة زينب عليها السلام هو الرؤوس المقطوعة، والصدور المرضوضة، والنساء السبايا. فما هي خلفيَّة وصفها لذلك كلِّه بأنه ليس إلا جمالاً.
كيف ننظر إلى الأشياء؟
إنَّ هذا يدعونا إلى دراسة النظرة الإنسانيّة الصحيحة إلى الأشياء، والتي على أساسها نحدِّد جمالها أو قبحها.

وفي هذا الإطار أعرض أسئلة:
1- هل الخطُّ المستقيم أجمل أو الخط الأعوج؟
قد يجيب البعض: من المؤكّد أنَّ الخطَّ المستقيم هو أجمل.
2- هل قطع يد الإنسان قبيح؟ أو حسن؟
قد يجيب البعض: من المؤكّد أنَّ قطع اليد أمر قبيح.
3- هل إشارات المرور على الطرقات حسنة؟ أو قبيحة؟

قد يبدي البعض انزعاجه منها حينما يتذكّر أحد أعزّائه الذي توفِّي نتيجة ازدحام السير بسبب الإشارة الحمراء.

والإنصاف أنَّ كل هذه الإجابات لا تنطلق من مبدأ سليم، وبالتالي لا يصحُّ أن نحكم عليها بالصواب، لأنَّ الإنسان في كلٍّ منها نظر إلى الشيء بنفسه، ثم حكم عليه بالجمال أو القبح.
والصحيح أنَّ عليه أن ينظر إليه في لوحته الكاملة، ومشهده التام، ثمّ بعد ذلك يحكم عليه. فالخطّ المستقيم ليس بنفسه جميلاً ولا قبيحاً، بل الذي يحدِّد جماله أو قبحه هو اللوحة التي يوجد فيها، فلو كان هذا الخطُّ هو حاجباً فوق عين الإنسان، فهل جماله باستقامته أو باعوجاجه؟ من المؤكِّد أنَّ اعوجاجه هو الذي يعطيه الجمال الممدوح، ومن هنا قيل: أيّها الحاجب المعوج، لو كنت جالساً لكنت أعوج وقطع اليد ليس دائماً يوصف بالقبح، فلو أنَّ إنساناً لدغته أفعى في يده، وتوقَّفت حياته على قطعها، فإنَّ أمَّه تلحُّ على الطبيب أن يقطعها، لأنّ بقاء اليد لم يعد بنظرها حسناً، بل قطعها هو كذلك.
مع أنَّ قطع اليد فيه ما فيه من السلبيَّات، إلا أنَّ الحكم بالحسن لا يكون على أساس أنَّ الشيء كُلّه إيجابيّ، بل الحكم يتبع النتيجة الإيجابيّة الفضلى بعد تزاحم الإيجابيّات والسلبيّات، في لوحة وجود الشيء.
وهذه الخلفيّة هي التي تشكل المبدأ الصحيح للحكم على إشارات المرور، فطالما أن الإيجابيّات هي الغالبة، فإنّ النظرة إليها تكون نظرة الحسن والجمال.
إنّ من أخطاء الكثيرين في حكمهم على الأشياء أنَّهم ينظرون إليها بنفسها، لا إليها ضمن لوحتها، فيخطئون بالنظرة، كحال الناظر إلى نقطة سوداء ضيّق نظرته في دائرتها فقط، فأصبح لا يرى إلا سواداً، فيحكم بقبح المنظر، في حين أنَّه لو وسّع نظرته، وشاهدها في لوحة وجودها، فلعله يراها “خالاً” على وجهٍ مليح تزيده جمالاً.

 

القرآن وتصويب النظرة
إنَّ هذا المبدأ هو من دروس الحوار الذي جرى بين الله تعالى وملائكته حينما أخبرهم عن مشروع الإنسان «وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاء كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسْمَاء هَؤُلاء إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ»2.
فالملائكة حينما سألت -بصورة الاعتراض- انطلقت من علم لديها بمستقبل أسود للإنسان، فيه سفك للدماء، وإفساد في الأرض.
ومن المؤكَّد أنَّ معلومات الملائكة كانت صحيحة، والتاريخ والحاضر خير شاهدين على ذلك، لذا لم يقل الله للملائكة: إنّ الإنسان لن يفسد في الأرض، ولن يسفك الدماء، بل أخبرها بأنَّ المشكلة فيها هي ضيق النظرة، لأنَّها اطَّلعت على جزءٍ من لوحة الإنسانية، وهو الجزء الأسود السلبيّ، ولم تطَّلع على تمام اللوحة. ولأجل اطلاعها على الجزء الآخر من تلك اللوحة علَّم آدم الأسماء كُلَّها، ثم عرضهم على الملائكة، ليعرِّفهم أنَّ نظرتهم لم تنطلق من مبدأ صحيح، لكونها لم تشمل تمام اللوحة.

 

البلاء بالمنظار الصحيح
انطلاقاً من هذا المبدأ في تقييم صحّة النظرة إلى الأشياء نطلَّ على البلاء، لنفهم من خلال ذلك سرَّ النظرة الزينبية.
والبلاء عنوان لأمثلة عديدة كالفقر، والمرض، وموت العزيز، وفقدان الوظيفة، وحادث السير، والزلزال، والفيضان، والبركان، وغيرها. فما هي النظرة الصحيحة إلى مثل هذه الأمور؟
من الواضح -بناءً على ما تقدَّم- أنَّ من الخطأ التسرُّع والحكم بقبح هذه الأمور، بل لا بدَّ من دراسة الإيجابيّات والسلبيّات جميعاً لتنجلي من خلال ذلك كلّ اللوحة، ثم نحكم عليها.
أما السلبيّات في الأمور السابقة فواضحة لا تحتاج إلى تفصيل، فمن يسمع بالفقر والموت، والمرض، يستحضر سلبياتها من المرارة والحزن والألم وغير ذلك.

إيجابيَّات البلاء
لذا أركِّز الكلام على إيجابيَّات تلك البلاءات التي منها:
1-بناء الشخصيّة القوية
إنَّ البلاء يساهم بشكل كبير في بناء الشخصية القويَّة للإنسان. وهذا ما يظهر جليًّا من خلال دراسة الأشخاص المتفوِّقين بين البشر الذين ساهمت معاناتهم والمصاعب التي واجهوها في حياتهم، في صناعة شخصيّاتهم الفذّة. والإمام علي عليه السلام يشير إلى هذه الحقيقة في قوله “ألا وإنَّ الشجرة البرِّيَّة أصلبُ عوداً، والروائع الخضرة أرقُّ جلوداً”3. فالعالِم الناجح لا يصبح كذلك -عادة- إلا بعد دراسة مضنية، والرياضيّ المتألِّق لا يصبح كذلك -عادة- إلا بعد تدريب قاس. حالهما كحال الماس الذي يتكوَّن من كربون مرَّ بضغوطات عالية.
2-تصويب المسار
إنَّ البلاء يساعد في تصويب مسار الإنسان، في حياته، وقد يوقظه من غفلته. وقد لَفَتَ القرآن الكريم إلى هذه الحقيقة في غير آية. قال تعالى: «وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاء إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ»4. وقال تعالى: «وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ»5.
3-تعويض الآخرة
إنّ البلاء يعقبه تعويض أخروي يريح المعتقد به، فقد ورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنَّ في الجنَّة شجرة يقال لها شجرة البلوى، يؤتى بأهل البلاء يوم القيامة، فلا يُرفع لهم ديوان، ولا ينصب لهم ميزان، يصبُّ عليهم الأجر صبّاً”6.

وكتطبيق لذلك التعويض الإلهي الكبير، أُعطي هذه الأمثلة التي تعرّضت لها الروايات:

أ- سقوط الجنين
عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّي مكاثر بكم الأمم، حتى إنّ السقط ليظلّ محبنطئاً على باب الجنّة، فيقال له: أدخل الجنّة، فيقول: أنا وأبواي، فيقال: أنت وأبواك”7.
ب- موت الولد
ورد أنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه داود عليه السلام ـ حينما مات ولده وقد حزن عليه: “ما يعدل هذا الولد عندك؟ قال عليه السلام: كان، يا رب، يعدل عندي ملء الأرض ذهباً”، فأوحى الله تعالى إليه: “فلك عندي يوم القيامة ملء الأرض ثواباً”8.
– وورد أنّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لصاحبه عثمان ابن مظعون وقد مات ولده واشتدّ حزنه عليه: “يا ابن مظعون، إنَّ للجنّة ثمانية أبواب، وللنار سبعة أبواب، أفما يسرُّك أن لا تأتي باباً إلا وجدت ابنك إلى جنبه، آخذاً بحجزتك يستشفع لك إلى ربّك، حتى يشفّعه الله تعالى9؟”.
– وورد عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “من قدَّم من صلبه ولداً لم يبلغ الحنث كان أفضل من أن يخلف من بعده مائة كلّهم يجاهدون في سبيل الله عزّ وجل، لا تسكن روعتهم إلى يوم القيامة”10.
ج- مرض الجسم
عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ الرجل ليكون له الدرجة عند الله لا يبلغها بعمله، يُبتلى ببلاء في جسمه، فيبلغها بذلك”11. إن صاحب البلاءات حينما يتأمّل هذه النصوص الدينيّة سيشعر بمزيج من الألم واللذة، كحالة المسافر الذي كان في بلد بعيد، وأراد أن يرجع إلى أهله في لبنان، وكانت رحلته تقتضي أن تحطّ الطائرة في مطار باريس “ترانزيت”، لينتظر فيه ثلاث ساعات، ثم تقلع بعدها الطائرة. وكان هذا الرجل قد أبلغ أهله بموعد الطائرة حيث سيكونون في مطار بيروت عند الموعد المحدّد. إلا أنّ طارئاً حدث في مطار باريس اضطرَّ الراكب بسببه أن ينتظر فيه عشر ساعات إضافيّة.

السؤال: كيف ستكون حالته النفسية؟
لا شكّ أنّ كثيراً من الناس يصيبهم ضيق الصدر والكدر والحزن على ذلك، ولكن لو أنّ هذا المسافر أُبلغَ بشكل يقيني أنَّ كلّ ساعة زائدة عن الموعد المحدَّد في مطار باريس ستوجب له تعويضاً قيمته 50000 يورو، فكيف ستكون حالته حينئذٍ؟
لا شكّ أنَّ هذا الإنسان ستتغيّر حالته المعنوية. وهو حينما يفكّر في تأخير كلّ ساعة ومضاعفاته، قد يغمره شعور بالرضا على هذا التأخير، بل الفرح، لأنَّ رصيده المالي سيصبح بعد عشر ساعات 500000 يورو.
ولو أنّ هذا المسافر أُبلغ يقينياً أنّه إذا تعرّض، في فترة التأخير، إلى ضربة كفّ، فإنّه سيعوَّض عليه بـ 100000 يورو عن كل ضربة، فإنه إذا ضُرب، قد يشعر بالألم، لكنّه حينما يفكّر بزيادة رصيده المالي مئة ألف يورو سيشعر أيضاً باللذة.
بل قد يشعر شعور الأولياء الذين يفهمون البلاء رسالة حبٍّ من الله تعالى، كحال ذلك العالم الذي لم يُرزق بولد، فأخذ يدعو الله تعالى طويلاً حتى رزقه بولد ملأ حياته سعادة وسروراً، وتعلّق قلبه به تعلّقاً كبيراً. وذات يوم –حينما كان يعظ الناس- جاءه خبر وفاة ولده الوحيد، فأكمل موعظته بدون أن يبدو عليه الحزن المتوقّع، وبعدها طلب من الناس أن يشاركوه في تشييع ولده.
سأله أحدهم: إني أعلم أنّك تعشق ولدك، فلمَ لم يبدُ عليك آثار الحزن عليه؟
فأجابه: “حينما جاءني خبر وفاته، خطر في قلبي أنّ الله تعالى عَلِم أنَّ قلبي تعلّق بحبّ غيره، فتوفّاه تعالى حتى لا يسكن قلبي إلا حبُّه، فرضيت”.
إنّ ما تقدّم يوضح كلمة بعض العرفاء بأن الفرق بين العذاب والعذب أَلِفٌ لا تُقرأ.

استفادات من فلسفة البلاء
إن هذه النظرة إلى البلاء تفهمنا:
1-
 لماذا نسب الله تعالى البلاء لنفسه في قوله تعالى: «وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ»12. وقوله تعالى: «كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ»13 وقوله تعالى: «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ»14.
2- سرّ حديث الإمام الصادق عليه السلام: “إنّ أشدّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الأولياء، ثم الذين يلونهم الأمثل فالأمثل”15. وحديث النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت”16.
3- معنى ما أدّبنا الله تعالى به حينما نُصاب بابتلاء، بأن نقول: “الحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروه سواه”. فالحمد هو ثناء وشكر، ثناء على لوحة الجمال الربَّانية، وشكر على عطاء الله تعالى بسبب بلائه. حينما يستحضر الإنسان آثار البلاء ونتائجه الإيجابية، سوف يفهم سرَّ نظرة السيّدة زينب عليها السلام إلى ملحمة عاشوراء. فهي، وإن كانت قد استحضرت كلَّ المأساة فيها، إلا أنها استحضرت أيضاً أنَّ هذه النهضة أبقت الإسلام حيًّا، وأنَّ هذه النهضة منعت قافلة الإنسانية من الانحراف في مسيرتها، وأنَّ هذه النهضة صنعت عشّاقاً شهداء لا يسبقهم أحد قبلهم ولا يلحق بهم أحد بعدهم. لذلك قالت عليها السلام: “ما رأيت إلا جميلاً17.

________________________________________
1 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج45، ص 116.
2 سورة البقرة، الآيات 30- 33.
3 الإمام علي عليه السلام ، نهج البلاغة، ط1،دار الذخائر، قم، إيران، 1412 هـ، ج3، ص70.
4 سورة الشورى، الآية 27.
5 سورة فصلت، الآية 51.
6 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج79، ص137.
7 الشهيد الثاني، زين الدين، مسكن الفؤاد، تحقيق ونشر مؤسسة آل البيت عليه السلام لإحياء التراث، ط1،قم،1407 هـ، ص5.
8 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج79، ص121.
9 الشهيد الثاني، زين الدين، مسكن الفؤاد، ص20.
10 النوري، حسين، مستدرك الوسائل، ج2، ص392.
11 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج78، ص174.
12 سورة البقرة، الآية 155.
13 سورة الأنبياء، الآية 35.
14 سورة المؤمنون، الآية 30.
15 الحر العاملي، محمد بن الحسن، وسائل الشيعة، ج2، ص906.
16 المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج39، ص54.
17 المصدر السابق، ج45، ص 116

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى