مقالات

عظمة منزلة الإمام في القرآن الكريم‏.

إنّ مسألة الإمامة والقيادة …ليست مسألة دينية وتشريعية فحسب، بل إنّ عالم الخلق والتكوين يخضع لها، اللَّه هو إمام عالم الوجود ومكوناته المختلفة، وهو يهديها ويدبرها جميعاً.

ويعطي القرآن الكريم أهميّة خاصة للإمامة ويعتبرها آخر مرحلة من مسيرة تكامل الإنسان، لم يصلها إلّا اولوا العزم من الأنبياء، إذ يقول تعالى‏ : {وَاذِ ابتَلَى‏ ابرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَاتَمَّهُنَّ قَالَ انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيّتَىِ قَالَ لا يَنَالُ عَهدِى الظَّالِمِينَ}.

(البقرة/ 124)

هنالك جدل كثير بين المفسرين حول هذه الكلمات التي اشير إليها في مطلع الآية، وكما يقول صاحب روح المعاني : لقد ذكروا حولها ثلاثة عشر قولًا (1).

إلّا أنّ ما يبدو صحيحاً هو أنّ المراد من هذه الكلمات هو «الأوامر والنواهي» التي تلقي‏ التكاليف الثقيلة والصعبة على‏ كاهل إبراهيم عليه السلام، ليتمحص- جيداً- في الابتلاء، وهي عبارة عن التصدي الشجاع لعبدة الأوثان، وتحطيم الأصنام، وإلقائه في النار، والاستقامة والثبات في جميع هذه المراحل.

وكذلك الاستعداد للتضحية بفلذة كبده، والتوجه به إلى‏ مكان الذبح ووضع السكين على‏ رقبته، ولم ينشغل بعياله وتركهم في صحراء مكة القاحلة الرمضاء، غير المسكونة، وأخيراً الهجرة من بلاد عبدة الأوثان والتخلي عن الحياة من أجل أداء رسالته، وحقاً أنَّ كلًا منها كان اختباراً قاسياً وصعباً، إلّا أنّ إبراهيم قد خرج من جميع تلك الاختبارات ظافراً وذلك بفعل قوة الإيمان والثبات والصبر.

وقد أحصى‏ بعض المفسرين الموارد التي ابتلي بها إبراهيم أنّها بلغت ثلاثين ابتلاءً، ويقولون : إنّ هذه الموارد الثلاثين قد ذُكرت في ثلاثة آيات من القرآن الكريم، فقد ذُكرت‏ «عشرة منها» في الآية 13 من سورة التوبة، و «عشرة» في الآية 35 من سورة الأحزاب، وذُكرت‏ «عشرة منها» في الآيات 1 إلى‏ 9 من سورة «المؤمنون» إذ يصبح مجموعها ثلاثين وصفاً أو ثلاثين مادة امتحانية (2) ولكن نظراً إلى‏ أنّ جانباً مهماً من هذه الصفات قد تكرر ذكره وأنّ عددها لا يصل إلى‏ الثلاثين، فإنّ هذا الكلام لا يحظى‏ بالقبول نوعاً ما.

على‏ أيّة حال فقد خرج إبراهيم بطل تحطيم الأصنام، والنبي المخلص والمضحي ظافراً من جميع تلك الابتلاءات القاسية والصعبة فاستحق ارتداء جلباب الإمامة، وشرفه اللَّه بهذا الخطاب المفعم بالفخر : «انِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَامَاً».

ما هو هذا المقام الذي ناله إبراهيم في آخر عمره بعد نيله مقام النبوة والرسالة، وبعد ذلك الجهاد الطويل؟

من المسلم به أنّه كان أسمى‏ وأرفع منها جميعاً، فمن اجتاز ذلك الاختبار الصعب يستحق هذه المكرمة الإلهيّة.

لقد كان للمفسرين جدالٌ طويل في تفسير معنى‏ الإمامة، وحيث إنّ بعضهم لم يستطع بلوغ أسرار المعنى‏ السامي لهذه الكلمة، فقد وقعوا في متاهات عجيبة.

والأعجب من ذلك هو أنّ طائفة من مشاهير المفسرين قد فسّروها بمعنى‏ النبوة، بينما من المسلم به أنّ إبراهيم عليه السلام كان نبياً وقتذاك، وقد فاتت سنوات على‏ نبوته ورسالته، وأصبح ذا ذرية، وفي سياق الآية يطلب الإمامة لأبنائه وذريته أيضاً.

يرى‏ الكثير من المفسرين أنّ الكلمات التي ابتلى‏ اللَّه تعالى‏ بها إبراهيم عليه السلام كانت عبارة عن مجموعة من التعاليم والأوامر التي أمره بها اللَّه تعالى‏، كمقارعة عبدة الأوثان وبناء الكعبة وذبح ابنه، إلّا أنّهم والحالة هذه قد فسّروا الإمامة بالنبوة، مع العلم أنّ هذه الأوامر وهذه التضحيات كانت بعد بلوغ إبراهيم عليه السلام مقام النبوة، وأنّ عبارة : {انِّى جَاعِلُكَ لِلَّناسِ امَامَا} غامضة تماماً في تفسيرهم.

والمعنى‏ الآخر الذي قالوه بصدد الإمامة هو وجوب الطاعة، ولا يخفى‏ أنّ إطاعة كل نبي واجبة ولا حاجة له إلى‏ نيل مقام آخر (3).

وقد ذكر البعض تفسيراً ثالثاً لها وقالوا : المراد هو الرئاسة في امور الدين والدنيا، أو بتعبير آخر : زعامة الحكم.

إنّ هذا التفسير وإن كان أفضل من سابقيه إلّا أنّه لم يدخل إلى‏ عمق معنى‏ الإمامة.

وحسب اعتقادنا واستناداً إلى‏ سائر آيات القرآن التي تبحث في مجال الإمامة، فإنّ المقصود بالإمامة هنا أنّها مقام أسمى‏ وأرفع من هذا كله، وهو تطبيق الأحكام، وتنفيذ الحدود الإلهيّة، وتربية وتهذيب ظاهر وباطن الإنسان.

وللتوضيح أكثر أنّ الهدف من بعثة الأنبياء وارسال الرسل هو هداية المجتمع البشري، وهذه الهداية تتخذ بعدين، الأول : الهداية التي تعني‏ «اراءة الطريق» أي‏ ما كلف به أيُّ نبيٍّ من الأنبياء، والثاني : «الايصال إلى‏ المطلوب» وهو يتفرع إلى‏ فرعين :

الفرع الأول : الهداية التشريعية، وتطبيق الأحكام الدينية، سواء عن طريق إقامة الحكم وتطبيق الحدود والأحكام الإلهيّة والعدالة الاجتماعية، أو عن طريق تربية وتعليم النفوس بشكل عملي، وكلاهما يؤدّي إلى‏ تحقيق اهداف الأنبياء، ويحتاج إلى‏ مخطط مرهق وصعب للغاية، وإلى‏ مواصفات كثيرة كالعلم والتقوى‏ والشجاعة والإدارة.

الفرع الثاني : الهداية التكوينية والهداية إلى‏ المطلوب من خلال التأثير والنفوذ المعنوي والروحي وتوجيه شعاع الهداية إلى‏ افئدة ذوي الاستعداد من الناس، وهذا يتطلب من أيّ نبيّ أو إمام أن يكون حسن السيرتين، الظاهرية والباطنية وهي التي كانت للأنبياء والأئمّة ازاء أتباعهم، ومن المسلم به أنّ مثل هذا الأمر يتطلب المزيد من المواصفات والمزايا والقابليات.

فمجموع هذين المخططين يحقق أهداف الدين والرسالات الإلهيّة، ويوصل ذوي الاستعداد من البشر إلى‏ التكامل المادي والمعنوي، الظاهري والباطني، وهذا هو المراد من الإمامة في الآية المذكورة، ولم ينل إبراهيم عليه السلام هذا المقام من دون أن يؤدّي الامتحان لنيل تلك المؤهلات والصفات.

ويستفاد ممّا تقدم أنّ مقام‏ «الإمامة» يشترك مع مقام‏ «النبوة» في الكثير من الحالات، وبإمكان نبيّ من اولي العزم كإبراهيم أن يبلغ مقام الإمامة أيضاً، والأكثر وضوحاً من ذلك هو أنّ اجتماع مقام‏ «النبوة» و «الرسالة» و «الإمامة» في خاتم الأنبياء صلى الله عليه و آله متحقق فعلًا.

ويمكن أن ينفصل مقام الإمامة عن مقام النبوة والرسالة، كما في الأئمّة المعصومين عليهم السلام الذين يعلمون مسؤولية الإمامة فقط، من دون أن ينزل عليهم الوحي ويكونوا «رسلًا» أو «أنبياء».

على‏ أيّة حال، فمن خلال مطلع هذه الآية تتضح جيداً عظمة مقام الإمامة، وأن تعيين الإمام من قبل اللَّه تعالى‏ : {قَالَ انِّىِ جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ امَاماً}.

وذيل هذه الآية يوكّد كثيراً على‏ هذا الموضوع، فهو يقول : إنّ إبراهيم عليه السلام لما أُعطي هذا المقام قال : {ومن ذرّيتي}.

فجاءه الخطاب قائلًا : {لا ينال عهدي الظالمين}، أي ‏أن النفر من ذرّيتك الذين لم يظلموا، وكانوا معصومين ومطهرين هم المؤهلون لهذا المنصب فقط.

لا شك في أنّ الظلم في هذه العبارة ليس ظلم الآخرين فحسب، بل الظلم بالمعنى‏ الشامل الذي يقابل العدالة، و «العدالة» بمفهومها الواسع تعني وضع الشي‏ء في محله، والظلم يعني وضعه في المحل الذي لا يناسبه، لذا ينقل القرآن الكريم عن لسان لقمان حيث يقول لابنه : {يَا بُنَىَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ انَّ الشِّركَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان/ 13).

كما يتضح أنّ العدالة هنا تعني العدالة التامة، أو بتعبير آخر مقام العصمة الذي يتناسب والإمامة بمفهومها الشامل، وإلّا فالعدالة القابلة للنقص والاقتران بالذنب لا تتلائم مع مقام الإمامة بمعناها الرفيع أبداً.

وبناءً على‏ ذلك يمكن الاستدلال بالآية أعلاه لإثبات عصمة الإمام أيضاً، بَيدَ أنّ الكلام في الصفات هل يكون مقروناً بالعدالة وترك جميع أشكال الذنب مدى‏ الحياة، أم أثناء التصدي للإمامة؟ فالبعض واستناداً إلى‏ البحث الاصولي المشهور من أنّ في المشتق الحقيقي‏ «من تلبس بالمبدأ» هو في حال النسبة- أي‏ حينما ننسب صفة من الصفات لأحد يجب أن يمتلك تلك الصفة في حال نسبتها إليه، فمثلًا تطلق كلمة القائم على‏ الذي يتمتع بصفة القيام أثناء نسبة هذه الصفة إليه، ولا تطلق على‏ الذي كان قائماً وقد جلس الآن- يعتقد أنّ مفهوم الآية هو عدم تمتعه بصفة الظلم أثناء توليه الإمامة، لا بشرك ولا بذنب، وليس ملوثاً بأي معصية اخرى‏، وعليه فالعدالة والعصمة لا تشمل بداية الحياة.

إلّا أننا نقرأ في الروايات أنّ أئمّة أهل البيت عليهم السلام واتباعاً لرسول اللَّه صلى الله عليه و آله قد استدلوا بهذه الآية على‏ العدالة في جميع مراحل العمر : إذ ينقل عبد اللَّه بن مسعود عن رسول اللَّه صلى الله عليه و آله أنّ اللَّه تعالى‏ قال لإبراهيم عليه السلام : «لا اعطيك عهداً للظالم من ذريتك، قال : يا ربّ ومن الظالم من ذرّيتي الذي لا ينال عهدك؟ قال من سجد لصنم من دوني لا اجعله إماماً أبداً ولا يصلح أن يكون إماماً» (4).

وقد نقل هذا المعنى‏ ابن المغاربي عالم أهل السّنة المعروف في كتاب‏ «المناقب» عن ابن مسعود عن النبي الأكرم صلى الله عليه و آله مع قليل من الاختلاف، إذ يقول : قال رسول اللَّه صلى الله عليه و آله في تفسير هذه الآية : قال اللَّه تعالى‏ لإبراهيم عليه السلام ما معناه : «مَنْ سَجدَ لصنم من دوني لا اجعله إماماً».

ثم أضاف صلى الله عليه و آله : «وانتهت الدعوة إليَّ وإلى‏ أخي علي، لم يسجد أحدنا لصنم قط» (5).

وقد نقلت روايات اخرى‏ عن طريق ائمة أهل البيت عليهم السلام في الكتب المعتبرة بهذا الصدد أيضاً، وتضم مجموعة هذه الروايات هذه النكتة وهي : إنّ النبي إبراهيم عليه السلام كان أعلم وأذكى‏ من أن يسأل اللَّه الإمامة للذين كانوا مشركين أو ظالمين، ولم تكن هنالك حاجة للرد عليه بأنّ الظالمين لا تشملهم هذه الهبة، لأنّ الأمر واضح.

فعلى هذا الأساس، لو سأل اللَّه شيئاً فمن المسلم به أنّه كان للذين كانوا ظالمين أو مشركين في وقت ما ثم تابوا واصلحوا، وفي هذا المجال سمع الجواب بأنّ عهد الإمامة لا يشمل مثل هؤلاء، أي ‏أن لا يكونوا ذوي سابقة في الظلم والشرك.

يقول المفسر الشهير العلّامة الطباطبائي في‏ «الميزان» : «سأل بعض أساتذتنا عن تقريب دلالة الآية على‏ عصمة الإمام، فأجاب : إنّ الناس بحسب القسمة العقلية على‏ أربعة أقسام :

1- من كان ظالماً في جميع عمره.

2- من لم يكن ظالماً في جميع عمره.

3- من هو ظالم في أول عمره دون آخره.

4- ومن هو بالعكس.

وإن إبراهيم عليه السلام أجلُّ شأناً من أنْ يسأل الإمامة للقسم الأول والرابع من ذرّيته، فبقي قسمان، وقد نفى‏ اللَّه أحدهم (وهو الذي يكون ظالماً في أول عمره دون آخره، فبقي الآخر) وهو الذي يكون غير ظالم في جميع عمره .. (تأملوا جيدا)» (6).

وقد اعترف الفخر الرازي في تفسيره بأنّ الآية دليل على‏ عصمة الأنبياء، واللطيف هو «إنّه يثبت هذا الأمر من خلال وجوب عصمة الإمام وأنّ كل نبي إمام» (تأملوا جيداً أيضاً) (7).

وبطبيعة الحال يستفاد من هذه الآية مطالب اخرى‏ بشأن الإمامة ووجوب عصمة الإمام، وتنصيبه من قبل اللَّه وغير ذلك مما لا يسع المقام لبحثه.

والآن وعلى‏ ضوء ما مرّ تتضح عظمة وجلالة الإمامة في نظر القرآن الكريم، وقد كان غرضنا هنا بيان هذه النقطة.

___________________
(1) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 336.

(2) تفسير روح المعاني، ج 1، ص 335 (وقد اضاف عليها بعض المفسرين سورة المعارج وقالوا : إنّها جاءت في‏ أربع سورٍ من القرآن).

(3) ذكر تفاسير روح البيان؛ والكشاف والمراغي؛ والقرطبي؛ والمنار؛ سُنن إبراهيم العشرة المعروفة؛ والأوامر والنواهي الإلهيّة، ومجموعة هذه التعليمات.

(4) أمالي الشيخ المفيد، (مطابق لنقل تفسير البرهان ج 1، ص 151 ح 13).

(5) المناقب لابن المغازلي، مطابق لنقل تفسير الميزان ج 1، ص 278 في ذيل الآية مورد البحث.

(6) تفسير الميزان، ج 1، ص 274.

(7) التفسير الكبير، ج 4، ص 43.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى