مقالات

في الإمامة

الحلقة التاسعة

بقلم / منير عوض

في عصمة نبي الله آدم عليه السلام:

وسنعرض في هذا المبحث أقوال الفريقين من القائلين بعصمة الرسل والأنبياء ومنهم آدم عليهم السلام ومن المخالفين لهم وفي الأخير سنذكر وجهة نظرنا في هذه المسألة البالغة الأهمية.

يستدل القائلون بعدم عصمة آدم ومخالفته لأوامر ربه وعصيانه له بنصوص من القرآن الكريم  من مثل:

( …ذاقَا الشَّجَرهَ… ) ، ( …فَأَکَلا مِنْها… )  ، ( …عصى آدَمُ ربَّهُ… )

وقد استحق بمعصيته هذه حسب زعمهم العقاب وهو ما يشير الله تعالى إليه بقوله :

( قلنا اهبطوا منها جميعا ) 

كما يستدلون ـ أيضا ـ  بقول آدم علیه السلام: ( ربّنا ظلمنا أَنفسنا… )

ندما منه على فعلهما حیث قال المخالفون للعصمة: کیف یکون معصوماً والحال أنّه یعترف باقتراف الظلم وأنّه ظالم لنفسه؟!

ورد عليهم المعتقدون بعصمة الأنبياء بقولهم:

إن هناك نوعان من الأمر والنهي هما:

 1ـ الأمر والنهي المولوي (التحريمي):

وهو الأمر والنهی الصادران من موقع المولویة و السلطة، حيث ینطلق الآمر من موضع مولویته وسلطويته فی إصدار أوامره ونواهیه، وتكون هذه الأوامر النواهی بصوره مؤکدة.

والقسم الأعظم من الأوامر والنواهی الإلهیة تقع تحت هذه المقولة، وإنّ مخالفة النهي المولوي التحریمي هذا تستوجب العقاب الإلهي.

1ـ الأمر والنهي المولوي (التنزيهي):

وهو الأمر والنهي من موقع النصح والإرشاد، فالآمر هنا یأمر وینهى انطلاقاً من موضع النصح والهدایة و التذکیر باللوازم الطبیعیة للعمل المنهی عنه، أی یتّخذ لنفسه موقف الناصح المشفق لا الآمر المتسلّط، ففی مثل هذه الحالة تکتسب الأوامر والنواهي صفة الإرشادیة، ولا تکون نتیجتها إلاّ تلک اللوازم الطبیعیة للفعل ولا تستتبع أيّ عقاب أو جزاء.

هناک قرائن تدلّ وبوضوح على أنّ الخطاب ینطلق من موقع النصیحة والإرشاد لا من موقع المولویة والسلطة، وهذه القرائن هي:

1 ـ قوله تعالى:( …یاآدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَکَ وَ لِزَوجِکَ فَلا یُخْرجَنَّکُما مِنَ الجَنَّة فَتَشْقى * إِنَّ لَکَ ألاّ تَجُوعَ فِیها وَلاتَعْرى * وَ أَنَّکَ لا تَظْمَؤُاْ فِیها وَ لا تَضْحى )

فهذه الآیات تصرّح بأنّ النهی کان نهیاً إرشادیاً، لصیانة آدم علیه السلام عمّا یترتب علیه من الآثار المکروهة والعواقب غیر المحمودة.

فلحن الخطاب الإلهی فیها هو لحن الناصح المشفق لا النهي المولوي، وهل یوجد لحنٌ أکثر شفقة من قوله:

( إنَّ هذا عَدُوٌّ لَك وَ لِزَوجكَ ) ، ( فَلا یُخْرِجَنَّکُما مِنَ الْجَنَّة ) ، ( فَتَشْقى ) .

فهذه العبارات تحکي لنا أنّ عاقبة ونتیجة مخالفة هذا النهی هی الخروج من الجنة والانتقال إلى دار الدنیا.

2 ـ ومما يدلّ ـ أيضا ـ على أن الأمر الموجّه إلى آدم علیه السلام كان أمرا إرشاديا ونصحيا لا نهیا مولویا هو قول الشیطان نفسه الذی ینقله اللّه سبحانه:

 ( وَقاسَمَهُما إنِّی لَکُما لَمِنَ النّاصِحینَ )

وهذا یکشف لنا أنّ خطابه سبحانه إلیهما کان بصورة النصح، وکأنّ الشیطان قد اقتبس هذه النصیحة من کلامه سبحانه ثمّ أطّر وزیّن خدیعته بتلک الصورة من النصح والشفقة.

حینما أکل آدم وحواء من تلک الشجرة وبدت لهما سوءاتهما وطفقا یخصفان علیهما من ورق الجنة، فی هذه الحالة العصیبة والموقف الحرج ناداهما اللّه سبحانه نداء الناصح المشفق بقوله: ( أَلَمْ أنْهَکُما عَنْ تِلْکُمَا الشَّجَرَة  وَ أَقُلْ لَکُما إِنَّ الشَّیْطَانَ لَکُما عَدُوٌّ مُبینٌ ) .

إنّ القرآن الکریم حینما یذکر لنا مصیر آدم وحواء وخروجهما من الجنة یصف ذلک بقوله:

 ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُما مِمّا کانا فِیهِ… ) .

أي أن النتيجة كانت خروجهما من الجنة .

3 ـ إن كانت كما يقول المخالفون لعصمة الأنبياء معصية من النوع الذي يستوجب العقاب فإن هذا العقاب يرتفع بالتوبة متى قبلت وقد تاب آدم وزوجه كما هو معلوم ونص القرآن على قبول الله لتوبتهما أنه عاد بالتوبة عليهما ولكنه لم يرجعهما إلى الجنة

ممّا لا ریب فیه أنّ الخروج من الجنة کان أثراً وضعیاً مترتبا عن فعل مخالفة نهي الله لهما الإرشادي النصحي لا المؤاخذة الإلهیة حتّى یرتفع بالتوبة.

العصمة وزلّة وظلم وغواية آدم علیه السلام:

وأراد القائلون بعدم العصمة إثبات صحة زعمهم بطرح سؤال من مثل:

كيف يكون آدم معصوما وقد نص القرآن على صدور الزلل منه وعلى ظلمه لنفسه وعلى معصيته لربه وغوايته:

 ( فَأَزَلَّهُمَا الشَّیْطانُ… ) ، ( فعصى آدم ربه فغوى ) ، ( ربنا إنا ظلمنا أنفسنا…)

كيف تجتمع العصمة مع الزلّة ومع الظلم ومع الغواية؟؟

 و قد رد المعتقدون بالعصمة عليهم بقولهم :

لا یمکن حصر الزلل بمخالفة النهي المولوي فقط، بل مخالفة النصح والإرشاد یقع فی إطار الزلل أیضاً، فکما یزلّ مخالف النهي المولوي کذلك یزلُّ مخالف النهي الإرشادي.

والجواب عن هذه الشبهة هو: إنّ مصطلح «الظلم» فی اللغة العربیة لیس إلاّ بمعنى تجاوز الحدّ ووضع الشیء فی غیر موضعه.

ولا ریب أنّ العمل الذي صدر من آدم علیه السلام ـ وبأی تفسیر فسّرناه ـ یُعدُّ تجاوزاً عن الحدّ ووضعاً للشيء فی غیر موضعه، ولکنّ هذا لا یمکن أن یُعدَّ انتهاکاً وتجاوزاً للقانون الإلهی و أنّ آدم علیه السلام قد دخل وبسبب فعله هذا فی زمره المذنبین والعاصین، من ذلک البیان یمکن التوصل إلى المراد من جملة: ( فَتَکُونا مِنَ الظالِمینَ ) . 

وربّما یتمسّک بعض المنخدعین بالمعنى المتبادر الیوم من هذه الألفاظ ویتصوّر أنّ آدم (علیه السلام) قد ارتکب ما یخالف العصمة والحال أنّ هذه الألفاظ جمیعها وبالالتفات إلى معناها اللغوی وأصلها لا المعنى المتبادر منها الیوم لا تدلّ على المعصیة أبداً، وذلك بالبیان التالی

1 ـ أمّا لفظة ( عصى ): فإنّ معنى العصیان فی لغة العرب هو خلاف الطاعة، قال ابن منظور: العصیان خلاف الطاعة، العاصی الفصیل إذا لم یتبع أُمّه.

وهذا یدلّ على أنّه لیس کلّ مخالفه تُعدُّ فی الاصطلاح ذنباً، لأنّ الإنسان الذی لا یسمع کلام الناصح المشفق یقال فی حقّه أنّه خالف کلامه، ولکن لا تُعدّ تلک المخالفة ذنباً فی المصطلح.

2 ـ وأمّا لفظة (غوى): فالجواب عنها أن الغيّ یستعمل فی لغة العرب بمعنى الخیبة.

ولیس کلّ ضلال معصیة، فإنّ من ضلّ فی طریق الکسب أو فی طریق التعلّم أو تشکیل الأُسرة ولم یلتفت إلى کلام ناصحیه یصدق علیه أنّه غوى: أی ضلّ، لأنّه لم یصل إلى النتیجة المطلوبة والمتوخّاة من عمله، ولکنّ ذلک لا یلازم المعصیة.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى