مقالات

نجمــة في أفـــق الإبـــاء

من قال بأن الإنسانية عندما تحررت من طوق شقائها ونهضت من عظيم كبوتها على يد منقذها (صلى الله عليه وآله) لم تنتكس مراراً وترجع القهقرى أدواراً؟ أول تلكم الانتكاسات ومطلع قائمة الكوارث كانت عندما دُعي (صلى الله عليه وآله) إلى جوار ربه،

إذ بدأت مرحلة الانقلاب على الأعقاب، والسطو على تراثه النبي الأكرم وهضم أجر رسالته (صلى الله عليه وآله)،

ولم يمتثل لوصيته القاضية بالتمسك بالثقلين بل استهين بها وضُربت عرض الجدار، ليقود الأمة بديل لا نصيب له من علم ولا سبق له بإيمان ولا حظّ له في ورع، وليس له أدنى مؤهل للخلافة، والاستعاضة بالذي هو أدنى عن الذي هو أعلى هكذا أميط اللثام عن وجه أول انحراف شديد الخطورة فتح منفذاً يلج إليه مريدو السلطة وطلاب الدنيا-فيما بعد- وما ترتب من مفاسد جراء ذلك أضرت بالأمة إذ أذاقتها طعم المرّ، وألبستها ثوب الهوان.. والذي يُحسن لفت النظر إليه إن الأئمة الميامين (عليهم السلام) ولم ولن يناضلوا بُغية استرداد موقعهم الشرعي منحة الباري إياهم وهو الخلافة وقيادة الأمة، أو أن يفكروا في يومٍ من الأيام بخوض صراعٍ أو قتالٍ من أجل ذلك، فهم يتعاملون مع منصب الخلافة – في أمور الدنيا – حسب ما تقتضيه المصلحة العليا للإسلام والمسلمين لا سواهما، فقد جاء عن أمير المؤمنين (عليه السلام) قوله: (اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن الذي كان منّا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام، ولكن لنردّ المعالم من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك..) ، إلا أنّهم (عليهم السلام) أَبَوا وهم أهل الإباء إلا أن يصوّبوا الوضع نحو الرشد، ويُرجِعوا الحق إلى نصابه، حتى وإن كان الثمن أرواحهم، وكل ما يصبوا إليه.. وعلى هذا السبيل ومن هذا القبيل جاءت النهضة الفاطمية الرافضة للباطل، بعد أن ساير مجموعة من الناس الزيغ، لتسهم السيدة الزهراء (عليها السلام) وبشكل كبير في توضيح الحقائق لعموم الأمة وكسر حاجز الصمت عن الحق الضائع، ومن هنا فليس من الإنصاف في شيء أن يُحصر موقفها (عليها السلام) بزاوية ضيقة وأن يقال إنها احتجت على القوم الغاصبين من أجل المطالبة برد حيفٍ فردي وهو استرجاع أرض (فدك)، وأنى لتلك المرأة الزاهدة أن تُطالب بسفاسف المادة أو تناضل إزاء ذلك، أو تتأثر بمجموعة من الانفعالات؟.. بل إنها (عليها السلام) كانت تحمل قضية أوسع، وتتطلع لمرمى أسمى، وما المطالبة بـ (فدك) إلا سهمٌ نافذٌ وجهته (عليها السلام) إلى جسد الانحراف لترديه صريعاً، كيف لا؟ وهي التي نبهت المجتمع آنذاك ــ وفي كل آن وزمان ــ إن الذين تصدوا لموقع الخلافة باسم الرسول (صلى الله عليه وآله) قد أخطئوا جادة الاستقامة، وطلبوا مقاماً فوق مقامهم، وتقمصوا ثوباً لا يناسبهم، وإنهم لا يمثلون الخط الرسالي لا من قريب ولا من بعيد، ولا يحق للأمة أن تتخذ منهم قدوة تسير وراءها، لتعلن (عليها السلام) ذلك صراحة دون لف أو دوران، عندما خاطبتهم: (فوسمتم غير إبلكم, وأوردتموها شرباً ليس لكم..)، ولولا هذا الموقف الصلب للسيدة الزهراء (عليها السلام) لكان الإسلام قد تحول إلى مجموعة أعمال اقتبسها الناس من سلوك هؤلاء المنحرفين، واحتلت سنتهم مكان سنة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأفعالهم مكان أفعاله، هكذا دافعت بنت الرسول عن الرسالة بحزم وشجاعة كما كان أبوها لا تأخذه في الله لومة لائم، وكما يقال (إن ما في الآباء يرثه الأبناء)، لذلك كان لِزاماً على عموم أبناء الأمة أن يرعوا حرمتها ـــ والتي هي من حرمة أبيهاـــ ويشيدوا بمواقفها الجريئة لنصرة الإمامة الإلهية والدفاع عن الحق المغصوب، بعد أن نالها من أجل ذلك ما نالها من الأذى والألم جراء موقفها الحازم. فما أحرانا اليوم ونحن نُحيي ذكرى مولاتنا الزهراء ـــ ولادة وشهادة ـــ أن نُذكي شعلة معطيات وقفتها الأبية، وأن نضعها نصب أعيننا كونها أضحت وستبقى مصدراً تستوجبه هممنا، ووعظاً تستلهمه نفوسنا والذي مفاده: (إن المبدأ إذا كان كبيراً صغرت التضحية قباله)، فالحكمة كل الحكمة هي بالاقتداء بالأنموذج الحق وتوظيفه في الوقت الحاضر.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى