مقالات

ننشر دراسة “الشيعة وصراع التأسيس الحضاري” للدكتور أحمد راسم النفيس

الوجه الآخر لما جرى يوم السقيفة من إبعاد الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام من موقع قيادة الأمة لم يبق محصورا حول تلك الخلافات الفقهية على أحكام الوضوء أو الجمع بين الصلاتين ولا قاصرا على تلك المواجهات الدموية التي جوبه بها أمير المؤمنين يوم الجمل وصفين والنهروان، إذ يمكن للبعض أن يكرر تلك السخافات القائلة أن الأمر كان فتنة عابرة (طهر الله سيوفهم منها) ليزعمبعد ذلك أن الأمة ما إن (استقرت بعد حسم خلافاتها السياسية) حتى انصرفتللبناء الحضاريتنفيذا للوصية الإلهية (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)[1]،بينما يقول التاريخ ويشهد الواقع المعاصر أن تمكين هؤلاء الطغاة المجرمين اتجه نحو تكريس الممارسات السلطوية الإجرامية والهدم الحضاريفكان تمكينهم محاكيا لنظرائهم من المجرمين السابقين حسب وصف القرآن (أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آَخَرِينَ)[2]،(وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ)[3].

التمكين الذي تحدث عنها القرآن يشمل تسخير الموارد الطبيعية وامتلاك قوة مكنت هذه الدول من فرض إرادتها على البشر حتى لقد قال قائلهم (من أشد منا قوة) بل وجعلت بعضهم يبارز الله في قدرته وعظمته (وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ)[4].

هذه العناصر يسميها البعض (حضارة) وجمعها حضارات، فرعونية وإغريقية و(إسلامية) والآن أمريكية.

المعيار المعاصر الذي يجعل من أوروبا وأمريكا نموذجا ومثالا يدعو البعض لاحتذائه زاعمين أن هذا يمثل لحاقا بركب الحضارة هو معيار القوة الغاشمة والبطش والتمييز بين البشر بعناوين مختلفة بعضها عرقي والبعض الآخر ديني، يقابله من يدعون للعودة إلى ما كان عليه آباؤهم وأسلافهم القتلة والمجرمين الذين جعلوا من إبادة البشر لا بسبب اختلافهم فقهيا أو فكريا معهم بل لعدم إذعانهم للسلطة الطاغوتية التي ألهبت ظهور الناس بسوطها ولم تتوان عن قطع رقابهم كلما عنَ لها ذلك وليس حتى عندما اقتضت الضرورة، دينا وحضارة إسلامية!!.

لا شك أن مفهوم أو مصطلح الحضارة مفهوم ملتبس ويفتقر عادة إلى تعريف متفق عليه خاصة في عصرنا الراهن بعد أن أصبح الغربالاستكباري هو النموذج والمثل الذي يتطلع أصحاب النظر القصير والمحدود لمحاكاته والنسج على منواله.

لماذا لم ينجح المسلمون أو من يرون أنفسهم حملة الإسلام الصحيح في تأسيس حضارة لها وجود واقعي على الأرض حتى وإن اختلفنا حول تقييمها، تقف الآن موقف المنافس أو الند إزاء الحضارة الغربية التي تمثلها الآن أمريكا التي تهيمن على العالم وتتباهى بقوتها (وقيمها)؟!.

هل حاول البعض وفشل أم أنه حاول وجد وكد وسعىلوضع اللبنة الأساس في هذا البناء قبل أن يأتي البعض الآخر ليمارس هوايته المفضلة في الهدم ويقضي على مشروع تأسيس حضارة إسلامية حقيقية لم يبق منه إلا أطلال يحظر علينا تذكرها أو حتى البكاء عليها لئلا نتهم بالطائفية والتعصب؟!.

حتى (قفا نبكي من ذكرى حبيب ومنزل) تكفي للزج بك في السجون باعتبارك رافضي خبيث يشتم ويسب ويحرض الموتى على الخروج من قبورهم ويسعى لإحداث فتنة في مجتمع يؤمن أن المدينة الفاضلة لا يسمع لسكانها حسا ولا ركزا.

عندما بدأت البحث منذ عدة سنوات عن معنى الحضارة لم أعثر على جواب يشفي الغليل فهم يرون في كل ما سبق بعجره وبجره حضارة الإسلام التي علمت العالم، والأغرب من هذا تعريف سيد قطب للحضارة حيث قال:

كنت أعلنت مرة عن كتاب لي تحت الطبع بعنوان “نحو مجتمع إسلامي متحضر” ثم عدت في الإعلان التالي وحذفت كلمة متحضر مكتفيا بأن يكون عنوان البحث “نحو مجتمع إسلامي”.

أما عن سبب اكتفائه بكلمة إسلامي وإسقاطه لكلمة متحضر فيكشف عنه بقوله (عندما فكرت في الكتابة عن هذا الموضوع كانت المشكلة عندي هي “تعريف الحضارة” ولم أكن قد تخلصت بعد من رواسب الثقافة الأجنبية والغربية التي كانت تغبش تصوري وتطمسه .. ثم انجلت الصورة لأرى أن المجتمع المسلم هو المجتمع المتحضر وأن كلمة المتحضر هي لغو لا يضيف شيئا جديدا وعلى العكس فإن هذه الكلمة تنقل إلى حس القارئ تلك الظلال الأجنبية الغربية التي كانت تغبش تصوري وتحرمني الرؤية الواضحة الأصيلة!! والاختلاف إذا هو على تعريف الحضارة)[5].

الخروج من هذه المتاهة جاء على يد المفكر الكبير الدكتور علي شريعتيفي كتابه (العودة إلى الذات):

الحضارة هي مرحلة سامية من النضج الثقافي والمعنوي في المجتمع وتربية الروح الفردية الإنسانية وتهذيبها والتسامي بها ومن أجل تحويل نصف بدائي إلى متحضر فهذا يحتاج إلى أيديولوجية وخطط ومشروعات وعمل وتضحية وتحمل وألم وصبر ورياضة وتغيير في الأصول والمبادئ الاجتماعية وثورة فكرية وعقائدية وتغيير للقيم والمبادئ والوصول إلى رؤية كونية منفتحة أو بكلمة واحدة: ثورة أيديولوجية[6].

الحضارة لا توجد في الاستهلاك والمظهر والكماليات بل توجد في الرؤية والفكر وعمق الإحساس والعلاقات الإنسانية والأخلاقية ومنظومة القيم وقوة الثقافة وغناها والدين والفن والاستعداد للخلق والتحليل والاختبار والقياس.

لا تحتاج العصرية إلا إلى التقليد ولكن الحضارة على عكسها تماما فهي نوع من الفوران الداخلي والتحرر من التقليد والوصول إلى حدود الخلاقية والتمييز المستقل.

التحضر ثورة في الفكر ووعي وتمييز ورؤية كونية وتحليل للحياة والمجتمع والدنيا وتقييمها وتتضح من السلوك الاجتماعي والتكتل السياسي والحياة الفردية في المجتمع[7].

الحضارة تعني حراثة الأرض وتسميدها ومدها بالمياه ثم بذر البذور ورعايتها وتطعيم النبات ومقاومة الآفات ثم يأتي النمو وهو ما لا يمكن له أن يحدث بين يوم وليلة بل يحتاج إلى كدح وعمل متواصل وصبر وإرادة وذكاء واستعداد أما الحضارة الاستهلاكية فهي ليست حضارة بل سوق لا أكثر.

إن ما يجعل الأرض في رأيي صالحة للإنبات هو الأيديولوجية, رؤية كونية متحركة وأهداف مشتركة أو ما يعبر عنه بكلمة واحدة بالإيمان وهو ما يوجد حركة وقدر ووسائل ووحدة في المجتمع ثقافة الهند الروحية العميقة والمسيحية والحضارة الإسلامية والحضارة الأوربية الحديثة كل واحدة منها كانت وليدة حركة فكرية وقومية ودينية[8].

لقد ظن البعض أن الفلسفة والثقافة والعلوم والتقنية هي التي تصنع الحضارة وهذه غفلة ذهنية عجيبة لأنهم وضعوا المعلول مكان العلة بينما كل هذه الأمور هي النتيجة الحتمية للحضارة الحقيقية[9].

الحضارة التي يتحدث الناس عنهامفهوم مركب منعدة مفاهيم بعضها واقعيوأغلبها انطباعي يندرج ضمن رؤية المرء أو الجماعة للذات أي أنها صورة يزعمها البعض لنفسه– حقا أو باطلا-ويسعى الدجالون الإعلاميون المزيفون لترسيخها ثم يأتي دور المهزومين المسحوقين من الشعوب الأخرى ليقبلوا ويتمسحوا بها رغم أن دورهم ضمن هذه المنظومة لا يتعدى دور العبد الذليل الذي يؤمر فيطيع ولا مانع بعد ذلك أن يشتم العبد المقهور قاهره ومستعبده منددا بازدواجية معاييره وأن السيد الأمريكي وقبله البريطاني يعامله معاملة أسوأ من تلك التي يعامل بها سائر العبيد رغم أن كلهم عبيد لا أكثر بل أقل!!.

الخلاف حول تعريف مصطلح (حضارة) ليس مهما قدر الخلاف حول مفردات هذا التعريف وعناصره مثل القوة – العلم – الخير –الجمال وهكذا يمكننا تقييم ما يسميه البعض (حضارة إسلامية) يستثنون منها الحضارة الفاطمية ويدخلون فيها الحضارة القراقوشية الأيوبية إذ أن هؤلاء الأوباش المنحطين يرون موالاة أهل بيت النبوة جرما ما بعده جرم ويرون مدمر المنجزات الحضارية والعلمية بطلا عظيما مكانه الوحيد بين النجوم وفوق السحاب.

قليل من الفلاسفة اهتم بالربط بين الحضارة والأخلاق ومن هؤلاء الفيلسوف الألماني (ألبرت أشفيستر) الذي كتب قائلا:

ما هي الحضارة؟

سؤال لا بد أنه ألح على اهتمام كل أولئك الذين يعدون أنفسهم متحضرين، ورغم ذلك فمن العجيب أن المرء لا يكاد يجد اليوم في الإنتاج الفكري العالمي كتابا يجيب على هذا السؤال، وأندر منه أن يجد جوابا عليه، فقد افترض ألا حاجة بنا لتعريف الحضارة ما دمنا قد امتلكناها.

أما إذا اقترب أحدهم من السؤال فالاعتقاد السائد أن الجواب مفروغ منه بالإحالة للتاريخ والحاضر.

الحضارة –حسب أشفيستر- هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على حد سواء.

أول مقوماتها أنها تقلل الأعباء المفروضة على الأفراد والجماهير الناشئة عن الكفاح في الوجود، وإيجاد الظروف المواتية للجميع في الحياة مطلب يطلب لذاته من ناحية، ومن ناحية أخرى يطلب من أجل كمال الأفراد روحيا وأخلاقيا وهو الغاية القصوى من الحضارة[10].

التقدم الأخلاقي هو جوهر الحضارة حقا وليس له سوى معنى واحد، أما التقدم المادي فهو أقل جوهرية ويمكن أن يكون له أثر طيب أو سيء في تطور الحضارة[11].

الذي نخلص نحن إليه أن الحضارة لا يمكن لها أن تنفصل إلى شقين لا رابط بينهما، شق يرتبط بالعلوم المادية وشق يرتبط بالجانب الأخلاقي والروحي كهذا الفصل المستحيل الذي يهلل ويطبل له البعض بين الدين والسياسة بينما يحكم الواقع والتاريخ باستحالته.

المسلمون والانفصام بين السياسة والأخلاق.

انفصام وليس انفصال!!

الانفصال الذي ينادي به البعض ويرى أنه المدخل الوحيد لما يسميه (اللحاق بركب الحضارة) يعني ضمن ما يعني ألا تكون الدولة تابعة للمؤسسة الدينية والعكس، وهو كلام بعضه صواب وبه الكثير من الخطأ إلا أنه لا يساوي انفصام.

الانفصام هو ذلك النموذج المحكي عن الخليفة شهريار الجبار الذي يذبح الآلاف دون أن يرف له جفن أو يهتز له ضمير وهو من الأصل منزوع الضمير ثم يستوقفه الواعظ الشهير فيعظه ويبكته فينهار شهريار الجبار باكيا إهيء هيء ميء لينهي خطيب المنبر حكايته بالثناء على العلماء والحكام.

أحد الذين جربوا حظهم في وعظ الملوك واستدرار دموع التماسيح من مآقيهم كان (ابن المقفع) اللغوي الشهيرالذي كتب كتاب أمان لعبد الله بن على عم المنصور، فكان من جملته: ومتى غدر أمير المؤمنين بعمه عبد الله، أو أبطن غير ما أظهر أو تأول في شئ من شروط هذا الامان فنساؤه طوالق، ودوابه حبس، وعبيده وإماؤه أحرار، والمسلمون في حل من بيعته.فاشتد ذلك على المنصور لما وقف عليه، وسأل: من الذى كتب له الامان؟ فقيل له: عبد الله بن المقفع كاتب عميك عيسى وسليمان، ابني علي بالبصرة، فكتب المنصور إلى عامله بالبصرة سفيان بن معاويه يأمره بقتله. وقيل: بل قال: أما أحد يكفيني ابن المقفع! فكتب أبو الخصيب بها إلى سفيان بن معاويه المهلبى أمير البصرة يومئذ – وكان سفيان واجدا على ابن المقفع لانه كان يعبث به ويضحك منه دائما، فغضب سفيان يوما من كلامه، وافترى عليه، فرد ابن المقفع عليه ردا فاحشا، وكان يمتنع ويعتصم بعيسى وسليمان ابني على بن عبد الله بن العباس، فحقدها سفيان عليه فلما كوتب في أمره بما كوتب اعتزم قتله، فاستأذن عليه جماعة من أهل البصرة منهم ابن المقفع، فأدخل ابن المقفع قبلهم، وعدل به إلى حجرة في دهليزه، وجلس غلامه بدابته ينتظره على باب سفيان، فصادف ابن المقفع في تلك الحجرة سفيان بن معاويه، وعنده غلمانه وتنور نار يسجر، فقال له سفيان: أتذكر يوم قلت لى كذا! أمي مغتلمة إن لم أقتلك قتله لم يقتل بها أحد، ثم قطع أعضاءه عضوا عضوا، وألقاها في النار وهو ينظر إليها حتى أتى على جميع جسده، ثم أطبق التنور عليه، وخرج إلى الناس فكلمهم، فلما خرجوا من عنده تخلف غلام ابن المقفع ينتظره فلم يخرج فمضى وأخبر عيسى بن على وأخاه سليمان بحاله، فخاصما سفيان بن معاوية في أمره، فجحد دخوله إليه، فأشخصاه إلى المنصور، وقامت البينة العادله أن ابن المقفع دخل دار سفيان حيا سليما ولم يخرج منها. فقال المنصور: أنا أنظر في هذا الامر إن شاء الله غدا، فجاء سفيان ليلا إلى المنصور فقال: يا أمير المؤمنين، اتق الله في صنيعتك ومتبع أمرك، قال: لاترع، وأحضرهم في غد وقامت الشهادة، وطلب سليمان وعيسى القصاص، فقال المنصور: أ رأيتم إن قتلت سفيان بابن المقفع، ثم خرج ابن المقفع عليكم من هذا الباب – وأومأ إلى باب خلفه – من ينصب لى نفسه حتى أقتله بسفيان؟ فسكتوا، واندفع الامر، وأضرب عيسى وسليمان عن ذكر ابن المقفع بعدها، وذهب دمه هدرا[12].

وذهب دمه هدرا!! رغم أنه عمل في خدمتهم ووعظهم وأسال دمعهم السخين الثمين، وهذا هو النموذج الحضاري الذي يفاخر به هؤلاء الوحوش!!.

الشاهد أن العالم الإسلامي كان ولا زال يفتش عن سلام داخلي بين أبناء هذه الأمة المنكوبة تمكنه من العمل والبناء الحضاري وهو سلام أفقدنا إياه تلك الطغمة المتسلطة التي صدق عليها قوله تعالى (وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ)[13].

ومعلوم أن البناء الحضاري عمل تراكمي لا يختلف كثيرا عن حياكة السجاد، عمل يحتاج إلى صبر ودأب واستمرار وهو ما افتقدناه أغلب فترات تاريخنا المحزن.

الشيعة والبناء الحضاري

إذا كان هذا مصير ابن المقفع وهو من رجالات الدولة العباسية فما بالك برجالات الشيعة وعلمائهم الذين كانوا دوما مستهدفين بالقتل والتصفية على طريقة دعبل الخزاعي (لا زلت أحمل خشبتي على ظهري منذ خمسين عاما لا أجد من يصلبني عليها!!).

أحد من حملوا خشبتهم على ظهرهم (سليم بن قيس) صاحب الكتاب الشهير الذي سجل فيه الكثير من الحقائق التاريخية والعقائدية، وكان يجمعأحاديثه من الأئمة الأطهار عليهم السلام والصحابة الأبرار ويكتبهاعلى خوف ووجل، لأن الدولة لو اطلعت على ذلك لكان ذلك برأيها سببا كافيالإعدامه، واستطاع أن يخفي ذلك عن عيونهم. وقد كان لحرصه على كتابه، يحمله معه فيأسفاره وتنقلاته العديدة، خاصة بعد أن تسلط بنو أمية وأخذوا يطاردون شيعة عليعليه السلام. وفي آخر عمره المبارك عندما كان الحجاج يتتبع من بقي من أصحابعلي عليه السلام لقتلهم، اختفى سليم وتنقل من بلد إلى بلد ما بين نجد ومكةوالمدينة والكوفة والبصرة.. ثم عبر إلى أرض فارس ووصل إلى نوبندجان، وهناك فيبيت أحد أصدقائه أبان بن أبي عياش جاءه الأجل، وكان لابد منالبوح بالسر وإيصال الأمانة إلى أهلها. فأخذ على أبان الأيمان، وكشف له حقيقةأحداث عاشها وشاهدها وسجلها، وقرأ عليه الكتاب، وأودعه عنده، ليوصله إلى أهلهوقد حافظ أبان على الأمانة، وحمل الكتاب بعد وفاة سليم إلى علماء البصرة،فنسخه بعض الرواة والعلماء رغم تلك الظروف الصعبة وانتشرت نسخه منهم عبرالأجيال.. حتى وصل إلينا[14].

حتى الصحيفة السجادية جرى التعامل معها بذات الطريقة كوثيقة سرية إذ لو ظفر بها هؤلاء الأوباش المنحطون لاختفت من الوجود.

ففي سند الصحيفة السجادية عن مُتوَكِّلِ بنِ هارُونَ قال: لقِيتُ يحيى بنَ زيدِ بن عليٍّ عليهِ السَّلامُ وهوَ مُتَوجِّهٌ إلى خُراسانُ فسلَّمْتُ عليهِ فقال لي: مِنْ أينَ أقبلْتَ؟ قلتُ من الحَجِّ فسأَلنِي عَن أَهْلِهِ وبني عمِّهِ بالمدينَةِ وأَحْفى السُّؤَالَ عَنْ جَعفرَ بن مُحمَّد عليهِ السَّلامُ فأَخْبَرتُه بِخَبرِهِ وخبرهِمْ وحُزْنِهِمْ على أبيهِ زيد بن عليٍّ عليهِ السَّلامُ فَقَالَ لِي: قَدْ كانَ عَمِّي مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ أَشَاْرَ عَلَى أَبِيْ بِتَرْكِ الْخُرُوجِ، وَعَرَّفَهُ إنْ هُوَ خَرَجَ وَفَارَقَ الْمَدِيْنَةَ مَا يَكُونُ إلَيْهِ مَصِيْرُ أَمْرِهِ، فَهَلْ لَقِيتَ ابْنَ عَمِّي جَعْفَرَ بْنَ مُحَمَّد عَلَيْهِ السَّلامُ؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَـالَ: فَهَلْ سَمِعْتَهُ يَذْكُرُ شَيْئَاً مِنْ أَمْرِي؟ قُلْتُ : نَعَمْ قَـالَ: بِمَ ذَكَـرَنِي؟ خبَّرْني، قُلْتُ: جُعلْتُ فـدَاكَ مَا اُحِبُّ أنْ أسْتَقْبلَكَ بِما سمِعْتُهُ مِنْهُ، فَقَالَ: أَبالْمَوْتِ تُخَـوِّفنِي؟! هَاتِ مَا سَمِعْتَهُ فَقُلْتُ: سَمِعْتُهُ يَقُولُ: إنَّكَ تُقْتَلُ وتُصْلَبُ كَمَا قُتِلَ أَبُـوكَ وَصُلِبَ، فَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ وَقَـالَ: يَمْحُـو الله مَا يَشَـآءُ وُيثْبِتُ وَعِنْـدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ، يَا مُتَوَكِّلُ إنَّ اللهَ عَزَّ وَجلَّ أَيَّدَ هَذَا الاَمْرَ بِنَا، وَجَعَلَ لَنَا الْعِلْمَ وَالْسَّيْفَ، فَجُمِعَا لَنَا وَخُصَّ بَنُـو عَمِّنَا بِالعِلْم وَحْـدَهُ، فَقُلْتُ: جُعِلْتُ فِـدَاكَ إنّي رَأَيْتُ النَّـاسَ إلَى ابْنِ عَمِّكَ جَعْفَرَ عَلَيْهِ السَّـلامُ أَمْيَـلَ مِنْهُمْ إلَيْكَ وَإلَى أَبيكَ؟ فَقَالَ: إنَّ عَمِّي مُحَمَّد بْنَ عَلِيٍّ وَابْنَهُ جَعْفَرَ عَلَيْهِمَا السَّلام دَعَوَا النَّاسَ إلَى الْحَيَاةِ، وَنَحْنُ دَعَوْنَاهُمْ إلَى الْمَوْتِ، فَقُلْتُ يَـا ابْـنَ رَسُولِ الله أَهُمْ أَعْلَمُ أَمْ أَنْتُمْ؟ فَأَطْرَقَ إلَى الاَرْضِ مَلِيّاً ثُمَّ رَفَعَ رَأسَهُ وَقَالَ: كُلُّنَا لَهُ عِلْمٌ غَيْرَ أَنَّهُمْ يَعْلَمُونَ كُلَّمَا نَعْلَمُ، وَلاَ نَعْلَمُ كُلَّمَا يَعْلَمُونَ، ثُمَّ قَالَ لِي: أَكَتَبْتَ مِنْ ابْنِ عَمِّي شَيْئاً؟ قُلْتُ: نَعَمْ، قَالَ: أَرِنِيْهْ، فَأَخْرَجْتُ إلَيْهِ وُجُوهاً مِنَ الْعِلْمِ، وَأَخْرَجْتُ لَهُ دُعَاءً أمْلاَهُ عَلَيَّ أَبُو عَبْـدِ اللهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وَحَدَّثَنِي أَنَّ أَبَاهُ مُحَمَّد بْنَ عَلِيٍّ عَلَيْهِمَا السَّـلامُ أَمْلاَهُ عَلَيْهِ وَأَخْبَرَهُ أَنَّـهُ مِنْ دُعَاءِ أَبِيهِ عَلِيٍّ بنِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِمَا السَّلاَمُ مِنْ دُعَاءِ الصَّحِيفَةِ الْكَامِلَةِ، فَنَظَرَ فِيهِ يَحْيَى حَتَّى أَتى عَلَى آخِرِهِ وَقَـالَ لِيْ: أَتَـأْذَنُ فِي نَسْخِـهِ؟ فَقُـلت: يَـا ابْنَ رَسُولِ اللهِ أَتَسْتَأْذِنُ فِيمَـا هُوَ عَنْكُمْ؟! فَقَـالَ: أَمَا لاُخْرِجَـنَّ إلَيْكَ صحِيفَةً مِنَ الدُّعَـآءِ الْكَامِـلِ مِمَّا حَفِظَهُ أَبِي عَنْ أَبِيهِ وَإنِّ أَبِي أَوْصَانِي بِصَوْنِهَـا وَمَنْعِهَا غَيْرَ أَهْلِهَا قَالَ عُمَيْرٌ: قَالَ أَبِي: فَقُمْتُ إلَيْهِ فَقَبَّلْتُ رَأْسَهُ وَقُلْتُ لَهُ: وَاللَّـهِ يَـا ابْنَ رَسُولِ اللهِ إنِّي لادِينُ اللّه بِحُبِّكُم وَطَـاعَتِكُـمْ، وَإنِّي لاَرْجُـو أَنْ يُسْعِـدَنِيْ فِي حَيَاتِي وَمَمَـاتِي بِـوَلاَيَتِكُمْ، فَـرمَى صَحِيفَتِي الَّتِي دَفَعْتُهَا إلَيْهِ إلَى غُلام كَانَ مَعَهُ وَقَالَ: اكْتُبْ هذَا الدُّعآءَ بِخَطٍّبَيِّن حَسَن وَاعْرِضْهُ عَلَيَّ لَعَلِّي أَحْفَظُهُ; فَإنِّي كُنْتُ أَطْلُبُهُ مِنْ جَعْفَرً حَفِظَهُ اللَّهُ فَيَمْنَعُنِيهِ، قَالَ مُتَوَكِّلٌ: فَنَدِمتُ عَلَى مَا فَعَلْتُ وَلَمْ أَدْرِ مَا أَصْنَعُ، وَلَمْ يَكُنْ أبُو عَبْدِ اللّهِ عَلَيْهِ السَّلامُ تَقَـدَّمَ إليَّ أَلاَّ أَدْفَعَـهُ إلَى أَحَـد، ثُمَّ دَعَـا بِعَيْبَـة، فَـاسْتَخْرَجَ مِنْهَا صَحِيفَةً مُقْفَلَةً مَخْتُومَةً، فَنَظَرَ إلَى الْخَاتَمِ وَقَبَّلَهُ وَبَكَى، ثُمَّ فَضَّهُ وَفَتَحَ الْقُفْلَ، ثُمَّ نَشَرَ الصَّحِيفَةَ وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنِـهِ وَأَمَرَّهَا عَلَى وَجْهِهِ وَقَالَ: وَاللَّهِ يَا مُتَوَكِّلُ لَوْلاَ مَا ذَكَـرْتَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَمِّيْ إنَّنِيْ أُقْتَلُ وَاُصْلَبُ لَمَا دَفَعْتُهَا إلَيْكَ، وَلَكُنْتُ بِهَا ضَنِيناً وَلَكِنّي أَعْلَمُ أَنَّ قَوْلَهُ حَقٌّ أَخَذَهُ عَنْ آبائِهِ وَأَنَّـهُ سَيَصِحُّ فَخِفْتُ أَنْ يَقَـعَ مِثْلُ هَذَا العِلْمِ إلَى بَنِي أُمَيَّةَ فَيَكْتُمُوهُ وَيَدَّخِرُوهُ فِي خَـزَائِنِهِمْ لاِنْفُسِهِمْ فَأَقْبِضْهَا وَأَكْفِنِيهَا وَتَرَبَّصْ بِهَا فَإذَا قَضَى اللّهُ مِنْ أَمْرِي وَأَمْرِ هؤُلاءِ الْقَوْمِ مَا هُوَ قَاض فَهِيَ أَمَانَةٌ لِي عِنْدَكَ حَتَّى تُوصِلَها إلَى ابْنَيْ عَمِّي مُحَمَّد وَإبْرَاهِيمَ ابْنَيْ عَبْدِاللّهِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ الْحَسَنِ بْنِ عَلِيّعليهما السلام فَإنَّهُمَا الْقَائِمَانِ فِي هَذَا الامْرِ بَعْـدِيَ.

قَالَ الْمُتَوَكِّلُ: فَقَبَضْتُ الصَّحِيفَةَ فَلَمَّا قُتِلَ يَحْيَى بْنُ زَيْـد صِرْتُ إلَى الْمَـدِينَةِ فَلَقِيتُ أبَا عَبْدِ اللَّهِعليه السلامفَحَدَّثْتُهُ الْحَدِيْثَ عَنْ يَحْيى فَبَكَى وَاشْتَدَّ وَجْـدُهُ بِهِ وَقَـالَ: رَحِمَ اللَّهُ ابْنَ عَمِّىَ وَأَلْحَقَهُ بِآبائِهِ وَأَجْدَادِهِ، وَاللّهِ يَا مُتَوَكِّلُ مَا مَنَعَنِي مِنْ دَفْعِ الدُّعَآءِ إلَيْهِ إلاّ الَّذِي خَافَـهُ عَلَى صَحِيفَةِ أَبِيهِ، وَأَيْنَ الصَّحِيفَةُ؟ فَقُلْتُ هَا هِيَ، فَفَتَحَهَا وَقَالَ: هَذَا وَالِّله خَطُّ عَمِّي زَيْد وَدُعَآءُ جَـدِّي عليِّ بنِ الْحُسَيْنِعليهما السلام ثُمَّ قَالَ لابْنِهِ: قُمْ يَا إسْماعِيلُ فَأْتِنِي بِآلدُّعَاءِ الَّذِي أَمَرْتُكَ بِحِفْظِهِ وَصَوْنِهِ، فَقَامَ إسْماعِيلُ فَـأَخْرَجَ صَحِيفَةً كَأَنَّهَا آلصَّحِيفَةُ الَّتِي دَفَعَهَا إلَيَّ يَحْيَى بْنُ زَيْـد فَقَبَّلَهَا أبو عَبْـدِ اللّهِ وَوَضَعَهَا عَلَى عَيْنِهِ وَقَـالَ: هـذَا خَطُّ أبِيْ وَإمْلاَءُ جَـدِّيْعليهما السلامبِمَشْهَد مِنّي، فَقُـلْـتُ: يَـا ابْنَ رَسُولِ اللّهِ إنْ رَأَيْتَ أَن أَعْرِضَهَا مَعَ صَحِيفَةِ زَيْد وَيَحْيَى؟ فَأَذِنَ لِي فِي ذَلِكَ وَقَالَ قَدْ رَأَيْتُكَ لِذَلِكَ أَهْلاً، فَنظَرَتُ وَإذَا هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ وَلَمْ أَجِدْ حَرْفاً مِنْهَا يُخَالِفُ مَا فِي الصَّحِيفَـةِ الاُخْرى، ثُمَّ اسْتَأذَنْـتُ أَبَا عَبْدِ اللّهعليه السلام في دَفْـعِ الصَّحِيفَـةِ إلَى ابْنيْ عَبْدِ اللّه بْنِ الْحَسَنِ فَقَالَ: إنَّ اللّه يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الامَانَاتِ إلَى أَهْلِهَا نَعَمْ فَادْفَعْهَا إلَيْهِمَا، فَلَمَّا نَهَضْتُ لِلِقَآئِهِمَا قَالَ لِيْ: مَكَـانَكَ ثُمَّ وَجَّـهَ إلَى مُحَمَّـد وَإبْراهِيمَ فَجَـآءَ افَقَـالَ: هَذَا مِيْـرَاثُ عَمِّكُما يَحْيَى مِنْ أَبِيـهِ قَـدْ خَصَّكُهمَا بِهِ دُونَ إخْوَتِهِ وَنَحْنُ مُشْتَرِطُونَ عَلَيْكُمَا فِيهِ شَرْطاً، فَقَالاَ: رَحِمَكَ اللّهُ قُلْ فَقَوْلُكَ الْمَقْبُولُ فَقَالَ لاَ تَخْرُجَا بِهَذِهِ الصَّحِيفَةِ مِنَ الْمَدِينَةِ، قَالاَ: وَلِمَ ذَاكَ؟ قَالَ: إنَّ ابْنَ عَمِّكُمَا خَافَ عَلَيْهَا أَمْراً أَخَافُهُ أَنَا عَلَيْكُمَا، قَالاَ: إنَّمَا خَافَ عَلَيْهَا حِينَ عَلِمَ أَنَّهُ يُقْتَلُ، فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللّهِعليه السلام: وَأَنْتُما فَـلاَ تَأْمَنَا فَوَاللِّه إنِّي لاَعْلَمُ أَنَّكُمَا سَتَخْرُجَانِ كَمَـا خَرَجَ، وَسَتُقْتَلاَنِ كَمَا قُتِلَ، فَقَامَا وَهُمَا يَقُولاَنِ: لاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إلاَّ بِاللّهِ الْعَلِيِّ الْعَظِيمِ[15].

كان شرط الإمام الصادق عليه السلام على محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن الحسن ألا يخرجا بالصحيفة السجادية من المدينة المنورة فبنو أمية عليهم لعائن الله ومن بعدهم بنو العباس كانوا يسعون لمصادرة وتغييب تلك الثروة الروحية والأخلاقية التي تحتويها الصحيفة والتي هي في حقيقة الأمر كنز الأمة الثقافي والحضاري مما يدحض تلك الهلاوس والتخاريف التي يرددها بعض السذج والبلهاء من أن الصراع كان صراعا (على الكرسي) وليس على روح الأمة وعقلها وحضارتها.

الشيعة وتأسيس العلوم الطبيعية

جابر بن حيان أنموذجا

تصور الكثيرون وربما كان بعض الشيعة ضمن هؤلاء أن أسلافهم لم يكن لهم من همة غير نشر المذهب وهو تصور يفتقد إلى الدقة والصواب.

عندما نقرأ كلام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام وهو يتوجع من ندرة التلاميذ الواعين القادرين على تلقي ما لديه من علم ومعرفة إذ يقول (وَيْلُ أُمِّهِ كَيْلًا بِغَيْرِ ثَمَنٍ لَوْ كَانَ لَهُ وِعَاءٌ وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ)[16]، ندرك أن الأئمة كانوا حريصين غاية الحرص على نقل علمهم ومعرفتهم لتلاميذهم القادرين على القيام بهذه المهمة.

من بين هؤلاء التلاميذ كان جابر بن حيان مؤسس علم الكيمياء تلميذ الإمام الصادق ع الذي لم يكن استثناء من حالة الخوف والمطاردة التي عاشها أعلام الشيعة وتلاميذ الأئمة كما يذكر الدكتور زكي نجيب محمود في كتابه عنه (فقد أقام في الكوفة زمنا فرارا من الخطر المحدق به في عصر هارون الرشيد وأنه بقي مختبئا بها حتى أيام المأمون فظهر بعد احتجابه)[17].

والمعنى أن أعلام الشيعة كانوا وما زالوا ملاحقين في كل عصر وزمان حتى يأتي صاحب العصر والزمان ومعه الأمن والأمان، أيا كان نوع العلم الذي يحملونه.

عندما أزمع الدكتور زكي نجيب محمود الفيلسوف المصري الراحل الكتابة عن جابر بن حيان كانت المعضلة حسب قوله(أصعب تلك الصعاب هو أن ليس بين يدينا إلا عدد قليل من مؤلفات جابر التي يعدونها بالمئات وأما بقيتها فهي مبعثرة في مكتبات أوربا)[18]،

(موجها التحية لبول كراوس الذي لولا ما قدم لنا من مخطوطات جابر التي قام بجمعها من مختلف مكتبات أوروبا ونشرها في كتاب (مختار رسائل) جابر بن حيان وذلك بالإضافة لمجلدين ألفهما في جابر تحدث فيها بصورة مستفيضة عن كتبه ومذهبه ولولا هذه الآثار العلمية الجليلة لكانت الكتابة عن جابر بن حيان ضربا من المحال)[19].

(ارتبط ذكر جابر بالإمام جعفر الصادق الذي كثيرا ما يرد اسمه في كتاباته مشيرا إليها بقوله سيدي وهنالك من يزعم أنه جعفر بن يحيى البرمكي لكن الشيعة يقولون وهو القول الراجح أنه يعني جعفر الصادق ونقول نحن أن هذا هو المرجح لأن جابرا شيعي فلا غرابة أن يعترف بالسيادة لإمام شيعي، هذا إلى وفرة المصادر التي تؤكد أن جابرا كان تلميذا للإمام جعفر الصادق ويقول (كارا دي فو) وهو يتحدث عن جابر: وفي مقدمة كتاب الحاصل لجابر يقول هو نفسه: وقد سميته كتاب الحاصل وذلك أن سيدي جعفر بن محمد صلوات الله عليه قال لي: فما الحاصل الآن بعد هذه الكتب (التي ألفها جابر) وما المنفعة منها فعملت كتابي هذا وسماه سيدي بكتاب الحاصل)[20].

يستكثرون علينا جابراً!!

أحد من تحدث عن جابر هو برتلو متخذا من كتاب (الخالص) لجابر بن حيان في ترجمته اللاتينية نموذجا للجانب الناضج من المؤلفات التي تنسب إلى العالم الغربي ويقول: (أن دراسة هذا الكتاب تدل على أنه لا ينتسب إلى أصل عربي لا في منهجه المتميز بأحكام السير في طريق الاستدلال حجة في أثر حجة أحكاما من شأنه أن يجمع المادة العلمية في سياق موحد متسق ولا في الحقائق الواردة فيه ولا في مفرداته اللغوية ولا في الأشخاص الذين يرجع إليهم في الفقرات المقتبسة) وكل هذه جوانب من الكتاب يراها برتلوم قاطعة بأن الكتاب لا يرتد إلى أرومة عربية[21].

وردا على تشكيك برتلو في نسبة الكتب إلى جابر بن حيان ينقل الدكتور زكي نجيب محمود عن برتلو نفسه أن (اسم جابر ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة أرسطو في تاريخ المنطق ويعني بذلك أنه أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه كما كان أرسطو أول من وضع لعلم المنطق قواعده وأصوله)[22].

ويبرز الدكتور زكي نجيب محمود اعتزاز جابر بعلمه: (إلا أن جابرا يعتز بعلمه اعتزازا بلغ به حد الغرور فاسمع إليه مثلا وهو يوجه الخطاب إلى سيده في سياق (كتاب الأحجار)  “… وحق سيدي لولا أن هذه الكتب باسم سيدي صلوات الله عليه لما وصلت إلى حرف من ذلك آخر الأبد لا أنت ولا غيرك إلا في كل برهة عظيمة من الزمان”)[23].

(ومما تجدر الإشارة إليه أن ثمة كتب باللاتينية تنسب إلى جابر بن حيان دون أن يكون هناك ما يقابلها بالعربية)[24].

وعلى رأس المثبتين لعلم الكيمياء بالقول والفعل جابر بن حيان الذي يتساءل في عجب: كيف يظن العجز بالعلم دون الوصول إلى معرفة الطبيعة وأسرارها؟ ألم يكن في مستطاع العلم أن يجاوز الطبيعة إلى ما وراءها؟ فهل يعجز عن استخراج كوامن الطبيعة من ثبتت قدرته على استخراج السر مما هو مستور وراء الحجب[25].

وهو يستدرك هنا بقوله (جابر بن حيان): إننا لا نطالب من لا علم له بالتصدي للكيمياء بل نطلب ذلك من ذوي العلم ممن استوفوا أركان البحث.

ويمضي جابر قائلا: أن أسرار الطبيعة قد تمتنع عن الناس لأحد سببين، إما لشدة خفائها وعسر الكشف عنها وإما للطافة تلك الأسرار بحيث يتعذر الإمساك بها وسواء كان الأمر هذا أو ذاك كان في وسع الباحث أن يلتمس طريقا لتحقيق بغيته فلا صعوبة المضوع ولا دقته مما يجوز أن تحول بين العلماء والسير في شوط البحث إلى غايته[26].

مصدر العلم:

يتساءل الدكتور زكي نجيب محمود: هل يأتي العلم من الفطرة الإنسانية والطبع المجبول حسب (سقراط) الذي يرى أن العلم كامن في الإنسان ولا يحتاج إلا لمن يحركه بالأسئلة الموجهة فيخرج العلم من الكمون إلى العلن أو من حالة الوجود بالقوة إلى حالة الوجود بالفعل.

لو كان ذلك لكان العلم ضربا من ضروب الكشف عما هو خبيء في النفس وليس علم اكتساب.

العلم بالفطرة هو أحد المذاهب المختلفة في تفسير التعلم وهناك مذهب آخر يقول أن العلم يكون بالتلقين فما في فطرة الإنسان علم لا بالقوة ولا بالفعل وعلى حد قول الفيلسوف الإنجليزي جون لوك فالفطرة تولد صفحة بيضاء ثم تأتي العوامل الخارجية عن طريق الحواس فتخط عليها آثارها ومن هذه الآثار المخطوطة يتكون علم الإنسان ومن أهم هذه العوامل الخارجية هو المعلم وفي ذلك يقول جابر (… إن من يوكل إليه أمر تكوين الإنسان يدرس عليه جميع العلوم والآداب وعلوم العلويات وغير ذلك مما يراد من ذلك المكون أن يكون ماهرا فيه)[27].

يذكر جابر المذهبين السابقين في مصادر العلم ثم يضيف إليهما مذهبا ثالثا يقع بين بين، وذلك أن يكون في نفس المتعلم استعدادا للتلقي ثم تجيء العوامل الخارجية فتستخدم ذلك الاستعداد الفطري زك 45 فالفطرة ليست علما ولكنها تهيؤ لقبول العلم أي أنه لا بد من داخل وخارج معا وهذا بعينه ما يقوله القائلون بضرورة الوراثة والبيئة معا في عملية التربية.

يقول جابر: إن العلم لا يكون بالبديهة ولا بالتعليم في الصغر بل يكون على البديهة ويختار جابر (أن النفس لا تكون عالمة أولا بالضرورة ولكنها مستعدة للتقبل بطبيعتها فهي قادرة فاعلة جاهلة أول الأمر ثم تراض بعد ذلك بفضل قدرتها وفاعليتها فيتحول الجهل علما)[28].

الإمام الصادق مصدر علم جابر

ولكن ما مصدر التلقين عند جابر؟ من الذي كشف له الحقائق فلتقفها وتمثلها بفطرته القابلة القادرة؟ هاهنا نجده يصرح في أكثر من موضع بأن مصدر علمه هو النبي وهو علي وهو سيده جعفر الصادق وما بين هؤلاء جميعا من أبناء الأسرة الشريفة فهو يقول: (تأخذ من كتبي علم النبي وعلي وسيدي وما بينهما من الأولاد منقولا مما كان وهو كائن وما يكون من بعد إلى أن تقوم الساعة)، ثم يقول في موضع آخر (فو الله ما لي في هذه الكتب إلا تأليفها والباقي علم النبي صلى الله عليه وآله).

ومؤدى هذه أن مصدر التلقين هو الوحي ينزل على النبي ثم يتوارثه الخلفاء من بعده وعن هؤلاء يكسب الكاسبون فليس العلم عقلا ولكنه نقل ليس هو بالكشف المبتكر الأصيل بالنسبة إلى العالم الكاشف بل هو تنزيل من السماء وعلى هذا الضوء نفهم اسم الكيميا ولماذا أطلق على مثل هذه الأبحاث التي قام بها جابر فهي لفظة معربة من اللفظ العبراني وأصله كيم يه ومعناه أنه من الله[29].

جابر والدقة العلمية

يضع جابر في كتاب (الحدود) أي تعريف الألفاظ العلمية عبارة تقول: (يا ليت شعري كيف يتم عمل لمن لم يقرأ كتاب الحدود من كتبنا).

إذا أحسنت تحديد المعنى الذي تتحدث فيه قطعت بذلك شوطا بعيدا من طريق البحث الموقف السديد.

الغرض بالحد هو الإحاطة بجوهر المحدود على حقيقته حتى يخرج منه ما هو فيه ولا يدخل منه ما ليس منه فإذا حدد الموضوع تحديدا تاما صار لا يحتمل زيادة ولا نقصانا والتحديد التام إنما يكون بذكر الجنس الذي يندرج تحته النوع المراد تحديده لم يذكر الفصل الذي يميز ذلك النوع من بقية الأنواع التي تندرج معه تحت جنس واحد[30].

ولنا على ما قاله جابر تعليق مهم، إذ أن أحد أهم الأزمات التي يعاني منها الفكر الإسلامي هو غياب التعريفات والخلط بين الأضداد والمتناقضات ضمن عناوين هلامية غالبا ما تكون دعائية أو إعلامية والنتيجة هي الفشل إذ أن ما ليس له حد ولا مبتدأ لا يمكن معرفته أو الإحاطة به.

مصدر العلم

تحت هذا العنوان يعلق الدكتور زكي نجيب محمود: لقد أسلفنا القول في رأي جابر عن مصدر العلم ماذا عساه يكون؟ هل هو وحي ينزل على النبي ثم يتوارثه خلفاؤه من بعده وهم المعترف بهم عند الشيعة ثم يجيء التلقين منهم لمن يرونه صالحا من تلاميذهم للتعلم؟؟[31].

والحق أنني لا أعرف كيف أوفق توفيقا أطمئن إليه بين هذا الرأي في مصدر العلم الأول وهو الوحي وبين منهجه التجريبي في بحوثه العلمية!!!!

أيكون العلم عنده نوعان نوع تلقيني خاص بتحصيل الأحكام الشرعية وما إليها ونوع آخر كشفي علمي تجريبي خاص بالعلم الطبيعي؟

يجوز ذلك لأنه صنف العلوم  قسمين رئيسيين: علم الدين وعلم الدنيا[32].

الاستنباط والاستقراء

من خلال قراءة نصوص جابر (والكلام ما زال للدكتور زكي نجيب محمود) يمكننا أن نتلمس طريقته في البحث العلمي وهي خطوات تطابق ما يتفق عليه معظم المشتغلين بالبحث العلمي اليوم وهي تتلخص في ثلاث خطوات رئيسية:

الأولى: أن يستوحي العالم مشاهداته فرضا يفرضه ليفسر ما هو بحاجة لتفسير من الظواهر.

الثانية: أن يستنبط من هذا الفرض نتائج تترتب عليه من الناحية النظرية البحتة.

الثالثة: أن يعود بهذه النتائج إلى الطبيعة ليرى هل تصدق أم لا تصدق على مشاهداته الجديدة فإن صدقت تحول الفرض إلى قانون علمي يُركن إلى صوابه في التنبؤ بما عساه أن يحدث في الطبيعة لو توافرت ظروف بعينها[33].

اصطلح رجال المنطق على إطلاق كلمة الاستقراء على مرحلتي المشاهدة الأولى والتطبيق الأخير لأن في كليهما لمسا للوقائع العينية واستقراء لها كما اصطلحوا على أن يطلقوا على مرحلة استنباط النتائج التي يمكن توليدها من الفروض اسم الاستنباط وهي عملية تتم في الذهن وهنالك من العلوم ما هو استنباطي صرف كالرياضة ومنها ما هو استنباطي استقرائي معا كالعلوم الطبيعية.

كان التفكير الاستباطي الصرف هو المنهج الوحيد الذي يعتد به في العصور القديمة والوسيطة لأن التفكير عندئذ كان قائما على أسس يفرضها العقل لنفسه فرضا أو يوحي بها الإنسان لنفسه إيحاء وما عليه في كلتا الحالتين هو استنباط النتائج من تلك الفروض المسلم بصدقها إلى أن جاءت النهضة الأوربية ومعها العلم الطبيعي، عندها أحس رجال النهضة العلمية بالحاجة لمنهج جديد يضاف للمنطق الأرسطي الاستنباطي وهو المنهج الاستقرائي الجديد لمعالجة الظواهر الطبيعية على أسس المشاهدة وإجراء التجارب.

ثم اندمج المنهجان آخر الأمر في منهج واحد لا مناص من اصطناعه في كل بحث علمي منتج وهو منهج يبدأ بالملاحظة الخارجية لنستوحيها فروضا نفرضها ثم سلوك طريق للاستنباط ننتهجه داخل عقولنا لنولد من تلك الفروض التي فرضناها نتائج ننتفع بها في دنيا العمل والتطبيق.

لو كتب منهج جابر بن حيان بلغة عصرنا لجاء كأنه من نتاج العصر الحديث ذلك لأنه اعتمد على الاستنباط والاستقراء معا اعتمادا واعيا صريحا[34].

أما عن الجانب الاستقرائي من المنهج العلمي وهو جانب يكاد ينسب كله لمناطقة أوربا ابتداء من النهضة العلمية في القرنين السادس عشر والسابع عشر فقد سبق ابن حيان للكتابة فيه بما يكفي أن يضع هذا العالم بين أئمة المنهج العلمي.

الاستقراء خلاف الاستنباط ينصب على أشياء الوجود الخارجي ومداره هو اتخاذ الحاضر شاهدا على الغائب فمن علمنا بطبيعة الضوء مثلا نستطيع أن نتوقع حدوث ظواهر ضوئية معينة في المستقبل[35].

فماذا يقول جابر في المنهج الاستقرائي دون أن يسميه بهذه الاسم؟!.

يقول أن المُشاهد يتعلق بالغائب على ثلاثة أوجه وهي 1- المجانسة، 2- مجرى العادة، 3- الآثار وسنوجز القول في الاستقراء القائم على المجانسة ثم نعقب بذكر الاستقراء عن طريق العادة ونأسف ألا نجد بين أيدينا ما قاله جابر عن الاستقراء عن طريق الآثار.

وها هو جابر بن حيان يجمع بين الاستنباط والاستقراء في منهجه وإن لم يجمع بينهما في عملية منهجية واحدة إذ يجعل لكل منهما موضعه، فبينما تراه يؤكد ضورة الملاحظة الخارجية في تجاربه العلمية، نراه من ناحية أخرى يبني مذهبه العلمي كله على أساس لو حللته لوجدته منهجا رياضيا استنباطيا فحدوس أولية يراها العقل رؤية مباشرة (أو يوحي بها إلى نبي ثم يتوارثها الخلفاء الشرعيون من بعده) ثم نتائج تلزم عن تلك الحدوس.

ليس الفرق بين المنهجين في الحقيقة فرقا سطحيا وكفى بل إنه يضرب بجذوره إلى فلسفة الكون: أهو يسير على اضطرادات يجيء فيها تعاقب الأحداث أمرا واقعا لكنه لا يهدف إلى شيء، أم أنه يسير على خطة عقلية تستهدف غاية معلومة؟ فإن كانت الأولى فما على العالِم إلآ أن يلاحظ تعاقب الأحداث المضطردة ويسجل ملاحظاته فتكون هي قوانين الطبيعة، وإن كانت الثانية فالأمر أمر تحليل عقلي يرتد بنا إلى المبدأ الأول الذي عنه صدرت الظواهر كلها وفي الحالة الثانية تكون العلاقة السببية بين الظواهر علاقة ضرورية بمعنى أن المسبب يكون كامنا في السبب بالقوة ثم يخرج إلى الظهور بالفعل خروج النتيجة العقلية من مقدمتها الملزمة لها لا مجرد ظهور اللاحق الذي يلحق سابقه دون أن يكون بينهما أية رابطة باطنية داخلية تجعل طبيعة اللاحق منبثقة من طبيعة السابق. 

ولا أشك أن فلسفة جابر الكونية هي فلسفة عقلية تربط الأشياء بالروابط السببية الضرورية التي يكشف عنها التحليل العقلي فالسببية هي سببية الكمون أو سببية المحايثة وهي السببية التي لا تجعل السبب والمسبب أمرا عارضا قد يكون أو لا يكون، بل تجعله أمرا ضروريا محتوما ما دام المسبب كان موجودا في سببه بالقوة قبل ظهوره بالفعل فكأنما السبب يلد مسببه ولادة طبيعية حيث يقول جابر (إن في الأشياء كلها وجودا للأشياء كلها ولكن على وجوه من الإخراج) وفي هذا دلالة على أن الكون كله

مترابط في وحدة واحدة فإذا رأيناه يتخذ ظواهر متعددة فهذه الظواهر يرتد بعضها إلى بعض ويخرج بعضها من بعض والكل في النهاية يرجع إلى أصل واحد كان يحمل كل شيء في جوفه بالقوة ثم يظهر منه كل شيء بالفعل، والعقل دون مشاهدة الحواس هو بالطبع ما يدرك هذه الرابطة بين الأشياء المختلفة في ظاهرها المتحدة في أصلها ومصدرها على أن الأشياء يخرج بعضها من بعض على صورة طبيعية أحيانا وعلى صورة مصطنعة مدبرة من الإنسان أحيانا أخرى وهذه الحالة الثانية هي مجال العلم أي أن التجارب العلمية في إخراج الأشياء بعضها من بعض إنما تحاكي الطبيعة فيما تؤديه من هذا الإخراج[36].

الإمام الصادق وجابر بن حيان

كان ممكنا لنا أن نختار الكثير من النماذج والأدلة على الدور الذي قام به الشيعة، تلامذة الأئمة من آل محمد، سواء تلك النماذج التي تبدو فردية مثل جابر بن حيان أو الدور الجبار الذي قامت به الدولة الفاطمية في تأسيس الفكر والثقافة والحضارة الإسلامية وهو دور يتجاوز بالقطع تلك الهذيانات التي أدمن البعض إطلاقها ضدهموأنهم لم يكن لهم من همة إلا سب الشيخين أو نشر المذهب أو التشويش على ما يسمونه (بالفتوحات الإسلامية) للبرابرة العثمانيين في أوروبا وغيرها من الترهات التي تعبر عن ذهنية مريضة ومعوقة.

مما يؤسف له أن بعض الكتاب والمفكرين الكبار من أمثال علي شريعتي –رغم إنجازاته الفكرية الكبيرة- قد انحازوا لنموذج القوة الغاشمة الذي اعتمدته الطغمة المتسلطة على رقاب أمة لا إله إلا الله وهو نموذج (غزا يغزو غزواً) وهو نموذج أثبت الآن وبعد قرون من استخدام القوة المفرطة فشله النهائي والتام.

الاتجاه نحو التأسيس الحضاري يعني ضمن ما يعني أن مصلحة الأمة هي دائما فوق كل اعتبار وأن التأسيس العلمي هو رأس مال دائم يتراكم مع مرور الوقت وتقادم الزمن ويعود مردوده لكل البشرية وليس لطائفة محدودة دون غيرها.

المسلمون المعاصرون يطالبون الغرب بالاعتراف بفضلهم وسبقهم الحضاري بينما يصرون على مواصلة سحقهم لجماجم الشيعة لا لشيء إلا لأنهم يتبعون الأئمة من آل البيت ولأنهم يتطهرون!!.

عندما يعترف فلاسفة الغرب بعضهم أو جلهم لجابر بن حيان بأنه مؤسس علم الكيمياء (وأن اسمه ينزل في تاريخ الكيمياء منزلة أرسطو في تاريخ المنطق وأنه أول من وضع لعلم الكيمياء قواعد علمية تقترن باسمه كما كان أرسطو أول من وضع لعلم المنطق قواعده وأصوله)، بينما يصر توافه هذه الأمة على حجب علوم أهل البيت في بقية المجالات بدءا من الإلهيات وصولا إلى الفقه عن أعين الناس وعقولهم يتبين لنا أن مصيبتنا في ديننا وعقلنا وليس في تسلط الغرب علينا كما يروج هؤلاء الحمقى فالتسلط الأجنبي على رقابنا هو نتيجة وليس سبب تخلفنا!!.

لماذ اخترنا (جابرا) نموذجا لإسهام الشيعة في بناء الحضارة؟.

السبب هو الربط والتواصل المباشر بينه وبين الإمام الصادق عليه السلام.

وبينما تتوفر النماذج الشيعية التي قدمت للدنيا عطاءها ومنهم ابن سينا وكثير من الفلاسفة إلا أن أغلب هؤلاء لم ينل ما ناله جابر بن حيان من شرف بتلقيه العلم على يد الإمام الصادق عليه السلام مشافهة ويدا بيد.

الربط بين العلم والدين… ربط أفقي أم بالامتداد؟

الآن قرر أحفاد مسيلمة وسجاح الربط بين العلم والدين من خلال تبنيهم لما يسمى الإعجاز العلمي في القرآن.

هل المطلوب رفع شأن العلم أم الدين؟!.

الدين علم هدفه رفع شأن الإنسان وتقريبه من الكمالات الإلهية وهذا معنى قوله تعالى (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[37].

العلم في مدرسة أهل البيت ينطلق من فرضية التلازم بين الثقلين: الكتاب والعترة الطاهرة.

الثابت لدينا أن المنهج العلمي الحقيقي لم يأت من فراغ بل جاء في القرآن الكريم بعيدا عن تلك الادعاءات التي يتربح البعض من وراءها الآن أي ما يسمى بالإعجاز العلمي في القرآن.

المنهج العلمي في القرآن ينطلق من الأمر الإلهي بالقراءة والتدبر والنظر والسير في الأرض وما أكثر هذا النوع من الأوامر في كتاب الله وما كان لعترة الرسول الطاهرة أن تشذ عن هذه الأصول.

(الإعجاز العلمي في القرآن) ليس إلا محاولة للربط الأفقي بين بعض الآيات وبعض النظريات العلمية القابلة للخطأ والصواب وما أغنانا عن مثل هذا الربط!!.

أما المنهج العلمي في القرآن فينطلق من هذه القواعد متكئا بعد ذلك على قواعد المنطق سواء كانت استنباطا أو استقراءا, ولو التزم علماء المسلمين بهذا المنهج  لكان لأمتنا شأنا مغايرا لما نحن عليه الآن.

لا نحمل العلماء كامل المسئولية فالبحث العلمي ليس استثمارا شخصيا مثل التجارة إذ ليس ممكنالأي شخص تأسيس معمل وتطبيق نتائج بحثه فالعلم يحتاج لتمويل ورعاية وهو ما تلخصه تلك الكلمات المضيئة للإمام علي بن أبي طالب عليه السلام التي قالها لِجَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْأَنْصَارِيِّ والتي نختم بها بحثنا:

(يَا جَابِرُ قِوَامُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِأَرْبَعَةٍ عَالِمٍ مُسْتَعْمِلٍ عِلْمَهُ وَجَاهِلٍ لَا يَسْتَنْكِفُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَجَوَادٍ لَا يَبْخَلُ بِمَعْرُوفِهِ وَفَقِيرٍ لَا يَبِيعُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ فَإِذَا ضَيَّعَ الْعَالِمُ عِلْمَهُ اسْتَنْكَفَ الْجَاهِلُ أَنْ يَتَعَلَّمَ وَإِذَا بَخِلَ الْغَنِيُّ بِمَعْرُوفِهِ بَاعَ الْفَقِيرُ آخِرَتَهُ بِدُنْيَاهُ).

وما زال مجال الكتابة مفتوحا في هذا الشأن…..

دكتور أحمد راسم النفيس

الأستاذ بكلية الطب

جامعة المنصورة مصر

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى