مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 38-41)

قال تعالى : {هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ } [آل عمران : 38 – 41].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) :

{هنالك} أي: عند ذلك الذي رأى من فاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، على خلاف ما جرت به العادة {دعا زكريا ربه} {قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} أي: طمع في رزق الولد من العاقر، على خلاف مجرى العادة، فسأل ذلك. وقوله: {طيبة} أي: مباركة، عن السدي. وقيل:

صالحة تقية نقية العمل، وإنما أنث طيبة وإنما سأل ولدا ذكرا على لفظ الذرية، كما قال الشاعر:

أبوك خليفة، ولدته أخرى، * وأنت خليفة، ذاك الكمال {إنك سميع الدعاء} (2) بمعنى قابل الدعاء، ومجيب له. ومنه قول القائل:

سمع الله لمن حمده أي: قبل الله دعاءه. وإنما قيل السامع للقابل المجيب، لأن من كان أهلا أن يسمع منه، فهو أهل أن يقبل منه، ومن لا يعتد بكلامه فكلامه بمنزلة ما لا يسمع. {فنادته الملائكة} قيل: ناداه جبرائيل، عن السدي. فعلى هذا يكون المعنى إن النداء أتاه من هذا الجنس، كما يقال: ركب فلان السفن، وإنما ركب سفينة واحدة. والمراد جاءه النداء من جهة الملائكة. وقيل: نادته جماعة من الملائكة.

{وهو قائم يصلي في المحراب} أي: في المسجد. وقيل: في محراب المسجد {ان الله يبشرك بيحيى} سماه الله بهذا الاسم قبل مولده واختلف فيه لم سمي بيحيى فقيل: لأن الله أحيى به عقر أمه، عن ابن عباس. وقيل: إنه تعالى أحياه بالإيمان، عن قتادة. وقيل: لأنه تعالى أحيى قلبه بالنبوة، ولم يسم قبله أحد يحيى.

{مصدقا بكلمة من الله} أي: مصدقا بعيسى، وعليه جميع المفسرين وأهل التأويل، إلا ما حكي عن أبي عبيدة أنه قال: بكتاب الله كما يقولون أنشدت كلمة فلان أي: قصيدته، وإن طالت. وإنما سمي المسيح كلمة الله، لأنه حصل بكلام الله من غير أب. وقيل: إنما سمي به لأن الناس يهتدون به، كما يهتدون بكلام الله، كما سمي روح الله، لأن الناس كانوا يحيون به في أديانهم كما يحيون بأرواحهم. وكان يحيى أكبر سنا من عيسى بستة أشهر، وكلف التصديق به، فكان أول من صدقه، وشهد أنه كلمة الله وروحه، وكان ذلك إحدى معجزات عيسى ” عليه السلام “، وأقوى الأسباب لإظهار أمره، فإن الناس كانوا يقبلون قول يحيى لمعرفتهم بصدقه وزهده.

{وسيدا} في العلم والعبادة، عن قتادة. وقيل: في الحلم والتقى وحسن الخلق، عن الضحاك. وقيل: كريما على ربه، عن ابن عباس. وقيل: فقيها عالما، عن سعيد بن المسيب. وقيل: مطيعا لربه، عن سعيد بن جبير. وقيل:

مطاعا عن الخليل. وقيل: سيدا للمؤمنين بالرئاسة عليهم عن الجبائي. والجميع يرجع إلى أصل واحد وهو أنه أهل لتمليكه تدبير من يجب عليه طاعته، لما هو عليه من هذه الأحوال.

{وحصورا}: وهو الذي لا يأتي النساء، عن ابن عباس وابن مسعود والحسن وقتادة، وهو المروي عن أبي عبد الله، ومعناه أنه يحصر نفسه عن الشهوات أي:

يمنعها. وقيل: الحصور الذي لا يدخل في اللعب والأباطيل، عن المبرد. وقيل:

هو العنين، عن ابن المسيب والضحاك. وهذا لا يجوز على الأنبياء، لأنه عيب وذم، ولأن الكلام خرج مخرج المدح {ونبيا من الصالحين} أي: رسولا شريفا رفيع المنزلة من جملة الأنبياء، لأن الأنبياء كلهم كانوا صالحين.

وفي هذه الآية دلالة على أن زكريا إنما طمع في الولد، لما رأى تلك المعجزات، وهو إن كان عالما بأنه تعالى يقدر على أن يخلق الولد من العاقر، فقد كان يجوز أن لا يفعل في لك لبعض التدبير. فلما رأى خرق العادة بخلق الفاكهة في غير وقتها، قوي ظنه في أنه يفعل ذلك إذا اقتضته المصلحة، كما أن إبراهيم وإن كان عالما بأنه تعالى يقدر على إحياء الموتى، سأل ذلك مشاهدة، ليتأكد معرفته.

وفيها دلالة على أن الولد الصالح نعمة من الله تعالى على العبد، فلذلك بشره به.

{ قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ}

{قال} زكريا {رب} لله، عز وجل، لا لجبرائيل {أنى يكون} أي: من أين يكون. وقيل: كيف يكون {لي غلام} أي: ولد {وقد بلغني الكبر} أي: أصابني الشيب، ونالني الهرم. وإنما جاز أن تقول بلغني الكبر، لأن الكبر بمنزلة الطالب له، فهو يأتيه بحدوثه فيه. والإنسان أيضا يأتي الكبر بمرور السنين عليه، ولو قلت: بلغني البلد، بمعنى بلغت البلد لم يجز، لأن البلد لا يأتيك أصلا. وقال ابن عباس: كان زكريا يوم بشر بالولد ابن عشرين ومائة سنة. وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنة {وامرأتي عاقر} أي: عقيم لا تلد.

فإن قيل: لم راجع زكريا هذه المراجعة، وقد بشره الله بأن يهب له ذرية طيبة، بعد أن سأل ذلك؟ قيل: إنما قال ذلك على سبيل التعرف عن كيفية حصول الولد، أيعطيهما الله إياه، وهما على ما كانا عليه من الشيب، أم يصرفهما إلى حال الشباب، ثم يرزقهما الولد، عن الحسن. ويحتمل أن يكون اشتبه الأمر عليه:

أيعطيه الولد من امرأته العجوز، أم من امرأة أخرى شابة ف‍ {قال} الله {كذلك} وتقديره: كذلك الأمر الذي أنتما عليه، وعلى تلك الحال {الله يفعل ما يشاء} معناه: يرزقك الله الولد منها، فإنه هين عليه، كما أنشأكما، ولم تكونا شيئا، فإنه تعالى قادر يفعل ما يشاء.

وقيل فيه وجه آخر وهو: إنه إنما قال ذلك على سبيل الاستعظام لمقدور الله، والتعجب الذي يحصل للإنسان عند ظهور آية عظيمة، كمن يقول لغيره: كيف سمحت نفسك باخراج ذلك المال النفيس من يدك! تعجبا من جوده. وقيل: إنه قال ذلك على وجه التعجب من أنه كيف أجابه الله إلى مراده فيما دعا، وكيف استحق ذلك. ومن زعم أنه إنما قال ذلك للوسوسة التي خالطت قلبه من قبل الشيطان، أو خيلت إليه أن النداء كان من غير الملائكة، فقد أخطأ لأن الأنبياء لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك، ووسوسة الشيطان. ولا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم، حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.

{ قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }

ثم سأل الله تعالى زكريا علامة يعرف بها وقت حمل امرأته، ليزيد في العبادة شكرا. وقيل: ليتعجل السرور به، عن ال أي: علامة لوقت الحمل والولد. فجعل الله تعالى تلك العلامة في إمساك لسانه عن الكلام إلا إيماء من غير آفة حدثت فيه بقوله: {قال آيتك} أي: قال الله. ويحتمل أن يكون المراد قال جبرائيل آيتك أي: علامتك {أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} أي: إيماء، عن قتادة. وقيل: الرمز تحريك الشفتين، عن مجاهد. وقيل:

أراد به صوم ثلاثة أيام، لأنهم كانوا إذا صاموا لم يتكلموا إلا رمزا، عن عطا (3).

{واذكر ربك كثيرا} أي: في هذه الأيام الثلاثة ومعناه: إنه لما منع من الكلام، عرف أنه لم يمنع من الذكر لله تعالى، والتسبيح له، وذلك أبلغ في الإعجاز. {وسبح} أي: نزه الله. وأراد التسبيح المعروف. وقيل: معناه صل كما يقال: فرغت من سبحتي أي: صلاتي. {بالعشي والإبكار} في آخر النهار وأوله .

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص286-290.

2- [معناه سامع الدعاء].

3- الظاهر أن التفسير الأخير أوجه بدليل قوله تعالى حكاية عن مريم: {إني نذرت للرحمن صوما} {فأشارت إليه} (سورة مريم، الآيتان: 26 – 29).

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) :

زَكَرِيَّا :

 { هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } . سبق القول : ان زكريا كان زوجا لخالة مريم أم عيسى ، وانه هو الذي كفلها ، ولم يكن لزكريا ولد ، وحين رأى صلاح مريم ، وما أجرى اللَّه على بدها من الكرامات تحركت في نفسه عاطفة الأبوة ، وحب الذرية ، فاتجه إلى اللَّه يدعو ويتضرع إليه أن يحقق رغبته واستجاب اللَّه سبحانه لدعوته :

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهً يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وسَيِّداً وحَصُوراً ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } . يحيى اسم سماه اللَّه به قبل أن يولد ، ولم يجعل له من قبل سميا – كما في الآية 7 من سورة مريم – وعلى هذا فلا وجه للبحث ان هذا الاسم هل هو عبري أو عربي ، كما في بعض التفاسير . . أجل ، له مصدر في اللغة ، وهو الحياة ، ويتناسب اسمه مع احياء اللَّه سبحانه لعقر أمه . { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ } . قيل : ان كلمة اللَّه إشارة إلى عيسى الذي خلقه اللَّه بكلمة ( كن ) من غير أب . . ولكن عموم كلمة اللَّه يرجح الحمل على جميع آياته وأحكامه .

وقال صاحب مجمع البيان : كان يحيى أكبر من عيسى بستة أشهر ، وهو أول من صدقه ، وشهد بأن مولده معجزة من اللَّه ، وكان ذلك أقوى الأسباب لإظهار أمر عيسى ، لأن الناس كانوا يثقون بيحيى ، ويقبلون منه ما يقول .

( وسيدا ) في العلم والدين ومكارم الأخلاق ( وحصورا ) يملك زمام نفسه ويمنعها عن الذنوب ، وقيل عن إتيان النساء { ونَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ } وكل الأنبياء صالحون ، بل معصومون ، والعصمة فوق العدل والصلاح ، وعليه يتعين أن يكون قوله : ( مِنَ الصَّالِحِينَ ) إشارة إلى أن زكريا تحدّر من أصلاب طاهرة ، وأرحام مطهرة . . ويتفق هذا مع قول الشيعة الإمامية : ان جميع آباء الأنبياء يجب أن يكونوا مؤمنين باللَّه واليوم الآخر.

ومن الطريف قول بعضهم – كما في تفسير الرازي – ان من الصالحين إشارة إلى « ان ما من نبي إلا وقد عصى ، أو همّ بمعصية غير يحيى فلم يعص ، ولم يهم » . وبالإضافة إلى أن في هذا القول مسا بمقام محمد ( صلى الله عليه واله ) فإنه يتنافى وحكم العقل ، لأن النبي انما أرسل لدفع المعاصي ، فإن عصى احتاج إلى نبي . .

بداهة ان القذارة لا تزال بمثلها . . تعالى اللَّه وأنبياؤه عما يقول الجاهلون .

قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ } . قالوا كان زكريا ، حين قال هذا ، قد أتم 120 سنة من عمره ، وامرأته 98 . .

وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو ان زكريا سأل ربه أن يهبه ذرية طيبة ، ومعنى هذا انه سأل شيئا ممكنا في اعتقاده ، فكيف عاد واستبعد ذلك عند ما بشرته الملائكة ؟

الجواب : لم يكن قوله هذا شكا واستبعادا ، وانما هو استعظام لقدرة اللَّه التي تخطت السنن والعادات ، تماما كما تقول لمن يهب الكثير الثمين من ماله :

كيف فعلت ما لم يفعله أحد سواك ؟ وأيضا يتضمن هذا الاستعظام والتعجب الشكر للَّه على هذه النعمة الجليلة التي لم تكن في الحسبان . . وأيضا نستفيد من أصل المعجزة ان على الإنسان أن لا يقيس مشيئة اللَّه بما يراه هو ممكنا أو مستحيلا .

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً } . لما كان علوق الرحم بالنطفة أمرا خفيا أحب زكريا أن يعلم به حين حدوثه ، ليتلقاه بالشكر منذ اللحظة الأولى ، ولهذا سأل ربه أن يجعل له علامة يعرف بها وقت العلوق ، فقال له تعالى : { آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ والإِبْكارِ } .

أي ان علامة حدوث العلوق أن يحتبس لسانك ، ويعجز عن النطق مع الناس ثلاثة أيام ، فإذا أردت الكلام لم يتحرك ، وانما تتفاهم معهم بالإشارة ، شأنك في ذلك شأن الأخرس ، ولكن لسانك ينطلق كما تريد حين تتجه إلى اللَّه في عبادتك ومناجاتك ، ولذا قال تعالى : { واذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً } . وهذه معجزة ثانية تضاف إلى حمل العاقر .

ونقل صاحب تفسير المنار عن أستاذه الشيخ محمد عبده ان اللَّه أمر زكريا أن ينقطع للذكر والتسبيح ثلاثة أيام ، وان اضطر إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء ، وبعد مضي الثلاثة يبشّر أهله بالحمل . والتفسير الأول أظهر وأشهر .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص51-55.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1)  :

قوله تعالى : {هنالك دعا زكريا ربه قال رب هب لي من لدنك ذرية طيبة} “الخ”، طيب الشيء ملاءمته لصاحبه فيما يريده لأجله فالبلد الطيب ما يلائم حيوة أهله من حيث الماء والهواء والرزق ونحو ذلك، قال تعالى : {وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ} [الأعراف: 58] ، والعيشة الطيبة والحيوة الطيبة ما يلائم بعض أجزائها بعضا ويسكن إليها قلب صاحبها ومنه الطيب للعطر الزكي فالذرية الطيبة هو الولد الصالح لأبيه مثلا الذي يلائم من حيث صفاته وأفعاله ما عند أبيه من الرجاء والأمنية فقول زكريا (عليه السلام) : رب هب لي من لدنك ذرية طيبة، لما كان الباعث له عليه ما شاهد من أمر مريم وخصوص كرامتها على الله وامتلاء قلبه من شأنها لم يملك من نفسه دون أن يسأل الله أن يهب له مثلها خطرا وكرامة، فكون ذريته طيبة أن يكون لها ما لمريم من الكرامة عند الله والشخصية في نفسها، ولذلك استجيب في عين ما سأله من الله، ووهب له يحيى وهو أشبه الأنبياء بعيسى (عليه السلام)، وأجمع الناس لما عند عيسى وأمه مريم الصديقة من صفات الكمال والكرامة، ومن هنا ما سماه تعالى بيحيى وجعله مصدقا بكلمة من الله وسيدا وحصورا ونبيا من الصالحين، وهذه أقرب ما يمكن أن يشابه بها إنسان مريم وابنها عيسى (عليه السلام) على ما سنبينه إن شاء الله تعالى.

قوله تعالى : {فنادته الملائكة وهو قائم يصلي في المحراب إن الله يبشرك بيحيى} إلى آخر الآية، ضمائر الغيبة والخطاب لزكريا، والبشرى والإبشار والتبشير الإخبار بما يفرح الإنسان بوجوده.

و قوله : {إن الله يبشرك بيحيى}، دليل على أن تسميته بيحيى إنما هو من جانب الله سبحانه كما تدل عليه نظائر هذه الآيات في سورة مريم، قال تعالى : {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا } [مريم: 7].

و تسميته بيحيى وكون التسمية من عند الله سبحانه في بدء ما بشر به زكريا قبل تولد يحيى وخلقه يؤيد ما ذكرناه آنفا : أن الذي طلبه زكريا من ربه أن يرزقه ولدا يكون شأنه شأن مريم، وقد كانت مريم هي وابنها عيسى (عليه السلام) آية واحدة كما قال تعالى : {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء: 91].

فروعي في يحيى ما روعي فيهما من عند الله سبحانه، وقد روعي في عيسى كمال ما روعي في مريم، فالمرعي في يحيى هو الشبه التام والمحاذاة الكاملة مع عيسى (عليه السلام) فيما يمكن ذلك، ولعيسى في ذلك كله التقدم التام لأن وجوده كان مقدرا قبل استجابة دعوة زكريا في حق يحيى، ولذلك سبقه عيسى في كونه من أولي العزم صاحب شريعة وكتاب وغير ذلك لكنهما تشابها وتشابه أمرهما فيما يمكن.

وإن شئت تصديق ما ذكرناه فتدبر فيما ذكر الله تعالى من قصتهما في سورة مريم فقال في يحيى : {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا ..} إلى أن قال {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا }[مريم: 7 – 15]، وقال في عيسى (عليه السلام) : {فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا .. } إلى أن قال : {إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا }- إلى أن قال –{ قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا }- إلى أن قال – : {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا} [مريم: 17 – 33] ، ويقرب منها من حيث الدلالة على تقارب أمرهما آيات هذه السورة التي نحن فيها عند التطبيق.

وبالجملة فقد سماه الله سبحانه يحيى وسمى ابن مريم عيسى وهو بمعنى “يعيش” على ما قيل وجعله مصدقا بكلمة منه وهو عيسى كما قال تعالى : {بكلمة منه اسمه المسيح عيسى} وآتاه الحكم وعلمه الكتاب صبيا كما فعل بعيسى، وعده حنانا من لدنه وزكاة وبرا بوالديه غير جبار كما كان عيسى كذلك، وسلم عليه في المواطن الثلاث كعيسى وعده سيدا كما جعل عيسى وجيها عنده، وجعله حصورا ونبيا ومن الصالحين مثل عيسى، كل ذلك استجابة لمسألة زكريا ودعوته حيث سأل ذرية طيبة ووليا رضيا عند ما امتلأ قلبه بما شاهد من أمر مريم وعجيب شأنها وكرامتها على الله كما مر بيانه.

وفي قوله : {مصدقا بكلمة من الله} دلالة على كونه من دعاة عيسى فالكلمة هو عيسى المسيح كما ذكره تعالى في ذيل هذه الآيات في بشارة الروح لمريم.

والسيد هو الذي يتولى أمر سواد الناس وجماعتهم في أمر حيوتهم ومعاشهم أو فضيلة من الفضائل المحمودة عندهم ثم غلب استعماله في شريف القوم لما أن التولي المذكور يستلزم شرفا بالحكم أو المال أو فضيلة أخرى.

والحصور هو الذي لا يأتي النساء والمراد بذلك في الآية بقرينة السياق الممتنع عن ذلك للإعراض عن مشتهيات النفس زهدا.

قوله تعالى: {قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني الكبر و امرأتي عاقر} استفهام تعجيب و استعلام لحقيقة الحال لا استبعاد و استعظام مع تصريح البشارة بذلك و أن الله سبحانه سيرزقه ما سأله من الولد مع أنه ذكر هذين الوصفين اللذين جعلهما منشأ للتعجب و الاستعلام في ضمن مسألته على ما في سورة مريم حيث قال: {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا} [مريم: 4، 5].

لكن المقام يمثل معنى آخر فكأنه (عليه السلام) لما انقلب حالا من مشاهدة أمر مريم و تذكر انقطاع عقبه لم يشعر إلا و قد سأل ربه ما سأل و قد ذكر في دعائه ما له سهم وافر في تأثره و تحزنه و هو بلوغ الكبر، و كون امرأته عاقرا، فلما استجيبت دعوته و بشر بالولد كأنه صحا و أفاق مما كان عليه من الحال، و أخذ يتعجب من ذلك و هو بالغ الكبر و امرأته عاقر، فصار ما كان يثير على وجهه غبار اليأس و سيماء الحزن يغيره إلى نظرة التعجب المشوب بالسرور.

على أن ذكر نواقص الأمر بعد البشارة بقضاء أصل الحاجة و استعلام كيفية رفع واحد واحد منها إنما هو طلب تفهم خصوصيات الإفاضة و الإنعام التذاذا بالنعمة الفائضة بعد النعمة نظير ما وقع في بشرى إبراهيم بالذرية قال تعالى: { وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ } [الحجر: 51، 56] ، فذكر في جواب نهي الملائكة إياه عن القنوط أن استفهامه لم يكن عن قنوط كيف و هو غير ضال و القنوط ضلالة، بل السيد إذا أقبل على عبده إقبالا يؤذن بالقرب و الأنس والكرامة أوجب ذلك انبساطا من العبد و ابتهاجا يستدعي تلذذه من كل حديث و تمتعه في كل باب.

وفي قوله: {وقد بلغني الكبر} من مراعاة الأدب ما لا يخفى فإنه كناية عن أنه لا يجد من نفسه شهوة النكاح لبلوغ الشيخوخة و الهرم.

وقد اجتمعت في امرأته الكبر والعقر معا فإن ذلك ظاهر قوله: {وكانت امرأتي عاقرا، و لم يقل: وامرأتي عاقر}.

قوله تعالى: {قال كذلك الله يفعل ما يشاء}، فاعل قال و إن كان هو الله سبحانه سواء كان من غير وساطة الملائكة وحيا أو بواسطة الملائكة الذين كانوا ينادونه فالقول على أي حال قوله تعالى لكن الظاهر أنه منسوب إليه تعالى بواسطة الملك فالقائل هو الملك و قد نسب إليه تعالى لأنه بأمره، و الدليل على ذلك قوله تعالى في سورة مريم في القصة: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا } [مريم: 9].

و منه يظهر أولا: أنه سمع الصوت من حيث كان يسمعه أولا.

و ثانيا: أن قوله: كذلك، خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير: الأمر كذلك أي الذي بشرت به من الموهبة هو كذلك كائن لا محالة، و فيه إشارة إلى كونه من القضاء المحتوم الذي لا ريب في وقوعه نظير ما ذكره الروح في جواب مريم على ما حكاه الله تعالى: {قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا} إلى أن قال -: { وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا } [مريم: 21]، و ثالثا: أن قوله: {الله يفعل ما يشاء} كلام مفصول في مقام التعليل لمضمون قوله: كذلك اه.

قوله تعالى: {قال رب اجعل لي آية قال آيتك أن لا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا} إلى آخر الآية، قال في المجمع، الرمز الإيماء بالشفتين، و قد يستعمل في الإيماء بالحاجب و العين و اليد، و الأول أغلب، انتهى، و العشي الطرف المؤخر من النهار، و كأنه مأخوذ من العشوة و هي الظلمة الطارئة في العين المانعة عن الإبصار فأخذوا ذلك وصفا للوقت لرواحه إلى الظلمة، و الإبكار صدر النهار و الطرف المقدم منه، والأصل في معناه الاستعجال.

ووقوع هذه الآية في ولادة يحيى من وجوه المضاهاة بينه و بين عيسى فإنها تضاهي قول عيسى لمريم بعد تولده: {فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا} [مريم: 26].

وسؤاله (عليه السلام) من ربه أن يجعل له آية و الآية هي العلامة الدالة على الشيء – هل هو ليستدل به على أن البشارة إنما هي من قبل ربه، و بعبارة أخرى هو خطاب رحماني ملكي لا شيطاني؟ أو لأنه أراد أن يستدل بها على حمل امرأته، و يعلم وقت الحمل، خلاف بين المفسرين.

والوجه الثاني لا يخلو عن بعد من سياق الآيات و جريان القصة لكن الذي أوجب تحاشي القوم عن الذهاب إلى أول الوجهين أعني كون سؤال الآية لتمييز أن الخطاب رحماني هو ما ذكروه: أن الأنبياء لعصمتهم لا بد أن يعرفوا الفرق بين كلام الملك و وسوسة الشيطان، و لا يجوز أن يتلاعب الشيطان بهم حتى يختلط عليهم طريق الإفهام.

وهو كلام حق لكن يجب أن يعلم أن تعرفهم إنما هو بتعريف الله تعالى لهم لا من قبل أنفسهم و استقلال ذواتهم، و إذا كان كذلك فلم لا يجوز أن يتعرف زكريا من ربه أن يجعل له آية يعرف به ذلك؟ وأي محذور في ذلك؟ نعم لو لم يستجب دعاءه و لم يجعل الله له آية كان الإشكال في محله.

على أن خصوصية نفس الآية – وهي عدم التكليم ثلاثة أيام – تؤيد بل تدل على ذلك فإن الشيطان و إن أمكن أن يمس الأنبياء في أجسامهم أو بتخريب أو إفساد في ما يرجونه من نتائج أعمالهم في رواج الدين و استقبال الناس أو تضعيف أعداء الدين كما يدل عليه قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} [ص: 41] ، و قوله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ} [الحج: 52] ، و قوله تعالى: {فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ} [الكهف: 63].

لكن هذه وأمثالها من مس الشيطان و تعرضه لا تنتج إلا إيذاء النبي وأما مسه الأنبياء في نفوسهم فالأنبياء معصومون من ذلك و قد مر في ما تقدم من المباحث إثبات عصمتهم (عليهم السلام).

والذي جعله الله تعالى آية لزكريا على ما يدل عليه قوله : { آيتك أن لا تكلم الناس ثلثة أيام إلا رمزا واذكر ربك كثيرا و سبح بالعشي والإبكار }هو أنه كان لا يقدر ثلاثة أيام على تكليم أحد و يعتقل لسانه إلا بذكر الله و تسبيحه، وهذه آية واقعة على نفس النبي ولسانه و تصرف خاص فيه لا يقدر عليه الشيطان لمكان العصمة فليس إلا رحمانيا وهذه الآية كما ترى متناسبة مع الوجه الأول دون الوجه الثاني.

فإن قلت لو كان الأمر كذلك فما معنى قوله:{ قال رب أنى يكون لي غلام و قد بلغني الكبر وامرأتي عاقر قال كذلك يفعل الله ما يشاء} الآية فإن ظاهره أنه خاطب ربه و سأله ما سأل ثم أجيب بما أجيب فما معنى هذه المخاطبة لو كان شاكا في أمر النداء؟ ولو لم يكن شاكا عندئذ فما معنى سؤال التمييز؟.

قلت: مراتب الركون والاعتقاد مختلفة فمن الممكن أن يكون قد اطمأنت نفسه على كون النداء رحمانيا من جانب الله ثم يسأل ربه من كيفية الولادة التي كانت تتعجب منه نفسه الشريفة كما مر فيجاب بنداء آخر ملكي تطمئن إليه نفسه ثم يسأل ربه آية توجب اليقين بأنه كان رحمانيا فيزيد بذلك وثوقا و طمأنينة.

و مما يؤيد ذلك قوله تعالى: {فنادته الملائكة}، فإن النداء إنما يكون من بعيد و لذلك كثر إطلاق النداء في مورد الجهر بالقول لكونه عندنا من لوازم البعد، و ليس بلازم بحسب أصل معنى الكلمة كما يشهد به قوله تعالى في ما حكى فيه دعاء زكريا {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا} [مريم: 3] فقد أطلق عليه النداء بعناية تذلل زكريا: و تواضعه قبال تعزز الله سبحانه و ترفعه و تعاليه، ثم وصف النداء بالخفاء فالكلام لا يخلو عن إشعار بكون زكريا لم ير الملك نفسه، و إنما سمع صوتا يهتف به هاتف.

وقد ذكر بعض المفسرين: أن المراد من جعله تعالى عدم التكليم آية نهيه عن تكليم الناس ثلاثة أيام، والانقطاع فيها إلى ذكر الله وتسبيحه دون اعتقال لسانه، قال: الصواب أن زكريا أحب بمقتضى الطبيعة البشرية أن يتعين لديه الزمن الذي ينال به تلك المنحة الإلهية ليطمئن قلبه و يبشر أهله فسأل عن الكيفية، و لما أجيب بما أجيب به سأل ربه أن يخصه بعبادة يتعجل بها شكره، ويكون إتمامه إياها آية و علامة على حصول المقصود، فأمره بأن لا يكلم الناس ثلاثة أيام بل ينقطع إلى الذكر و التسبيح مساء صباحا مدة ثلاثة أيام فإذا احتاج إلى خطاب الناس أومأ إليهم إيماء، على هذا تكون بشارته لأهله بعد مضي الثلاث الليال، انتهى.

وأنت خبير بأنه ليس لما ذكره من مسألته عبادة تكون شكرا للمنحة، و انتهائها إلى حصول المقصود، و كون انتهائها هو الآية، و كون قوله: أن لا تكلم مسوقا للنهي التشريعي و كذا إرادته بشارة أهله في الآية عين و لا أثر.

كلام في الخواطر الملكية و الشيطانية و ما يلحق بها من التكليم

قد مر كرارا أن الألفاظ موضوعة لمعانيها من حيث اشتمالها على الأغراض المقصودة منها، وأن القول أو الكلام مثلا إنما يسمى به الصوت لإفادته معنى مقصودا يصح السكوت عليه، فما يفاد به ذلك، كلام و قول سواء كان مفيدة صوتا واحدا أو أصواتا متعددة مؤلفة أو غير صوت كالإيماء و الرمز، و الناس لا يتوقفون في تسمية الصوت المفيد فائدة تامة كلاما و إن لم يخرج عن شق فم، و كذلك في تسمية الإيماء قولا و كلاما و إن لم يشتمل على صوت.

والقرآن أيضا يسمي المعاني الملقاة في القلوب من الشيطان كلاما له و قولا منه، قال تعالى حكاية عن الشيطان: {وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ} [النساء: 119] و قال: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ } [الحشر: 16] ، وقال: {يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ } [الناس: 5] ، و قال {يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ} [الأنعام: 112] و قال أيضا حكاية عن إبليس: {إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ} [إبراهيم: 22] و قال: {الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا } [البقرة: 268، 269] ، ومن الواضح أن هذه هي الخواطر الواردة على القلوب، نسبت إلى الشيطان، و سميت بالأمر و القول و الوسوسة و الوحي و الوعد، وجميعها قول و كلام و لم تخرج عن شق فم و لا تحريك لسان.

ومن هنا يعلم: أن ما تشتمل عليه الآية الأخيرة من وعده تعالى بالمغفرة و الفضل قبال وعد الشيطان هو الكلام الملكي في قبال الوسوسة من الشيطان، و قد سماه تعالى الحكمة، و مثلها قوله تعالى: {وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ } [الحديد: 28] ، و قوله: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [الفتح: 4] ، وقد مر بيانها في الكلام على السكينة في ذيل قوله تعالى: {فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ } [البقرة: 248] ، و كذا قوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ} [الأنعام: 125] ، و قد سمى الوسوسة رجزا فقال: {رِجْزَ الشَّيْطَانِ} [الأنفال: 11] ، فمن جميع ذلك يظهر أن الشياطين و الملائكة يكلمون الإنسان بإلقاء المعاني في قلبه.

وهنا قسم آخر من التكليم يختص به تعالى كما ذكره بقوله: { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} [الشورى: 51] ، فسماه تكليما و قسمه إلى الوحي، وهو الذي لا حجاب فيه بينه و بين العبد المكلم، و إلى التكليم من وراء حجاب، هذه أقسام من الكلام لله سبحانه و للملائكة و الشياطين.

أما كلام الله سبحانه المسمى بالوحي فهو متميز متعين بذاته فإن الله سبحانه ألقى التقابل بينه و بين التكليم من وراء حجاب فهو تكليم حيث لا حجاب بين الإنسان و بين ربه، و من المحال أن يقع هناك لبس، وهو ظاهر، وأما غيره فيحتاج إلى تسديد ينتهي إلى الوحي.

وأما الكلام الملكي و الشيطاني فالآيات المذكورة آنفا تكفي في التمييز بينها فإن الخاطر الملكي يصاحب انشراح الصدر، و يدعو إلى المغفرة و الفضل، و ينتهي بالأخرة إلى ما يطابق دين الله المبين في كتابه و سنة نبيه، و الخاطر الشيطاني يلازم تضيق الصدر، و شح النفس و يدعو إلى متابعة الهوى، و يعد الفقر، و يأمر بالفحشاء، و بالأخرة ينتهي إلى ما لا يطابق الكتاب و السنة، و يخالف الفطرة.

ثم إن الأنبياء و من يتلوهم ربما تيسر لهم مشاهدة الملك و الشيطان و معرفتهما كما حكى الله تعالى عن آدم و إبراهيم و لوط فأغنى ذلك عن استعمال المميز، و أما مع عدم المشاهدة فلا بد من استعماله كسائر المؤمنين، وينتهي بالأخرة إلى تمييز الوحي وهو ظاهر.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 154-161.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) :

قلنا إنّ زوجة زكريّا وأُمّ مريم كانتا أُختين، وكانتا عاقرين، وعندما رزقت أُمّ مريم بلطف من الله هذه الذرّية الصالحة، ورأى زكريّا خصائصها العجيبة، تمنّى أن يرزق هو أيضاً ذرّية صالحة وطاهرة وتقيّة مثل مريم، بحيث تكون آية على عظمة الله وتوحيده. وعلى الرغم من كبر سن زكريّا وزوجته، وبُعدهما من الناحية الطبيعيّة عن أن يرزقا طفلاً، فإنّ حبّ الله ومشاهدة الفواكه الطرية في غير وقتها في محراب عبادة مريم، أترعا قلبه أملاً بإمكان حصوله في فصل شيخوخته على ثمرة الأُبوّة، لذلك راح يتضرّع إلى الله {قال ربِّ هب لي من لدنك ذرّية طيّبة إنّك سميع الدعاء}.

لم يمض وقت طويل حتّى أجاب الله دعاء زكريّا.

{فنادته الملائكة وهو قائم يصلّي في المحراب}.

وفيما كان يعبد الله في محرابه، نادته ملائكة الله وقالت له إنّ الله يبشّرك بمولود اسمه يحيى بل أنهم لم يكتفوا بهذه البشارة حتّى ذكروا للمولود خمس صفات :

أوّلاً : سوف يؤمن بالمسيح ويشدّ أزره بهذا الإيمان : {مصدّقاً بكلمة من الله}. و«كلمة الله» هنا وفي مواضع أُخرى من القرآن سيرد شرحها ـ تعني المسيح (عليه السلام) ـ وقد جاء في التاريخ أنّ يحيى كان يكبر عيسى ستة أشهر، وكان أول من آمن به. وإذا كان قد اشتهر بين الناس بالطهر والزهد، فقد كان لإيمانه هذا بالمسيح تأثير كبير على الناس، في توجيههم وحثّهم على الإيمان به.

وثانياً : سيكون من حيث العلم والعمل قائداً للناس {وسيّداً} ، كما أنّه سيحفظ نفسه عن الشهوات الجامحة وعن التلوّث بحبّ الدنيا.

{وحصوراً}.

«الحصور» من الحصر، أي الذي يضع نفسه موضع المحاصرة، أو الذي يمتنع عن الزواج، وإلى هذا ذهب بعض المفسّرين، كما أُشير إليه في بعض الأحاديث.

والرابعة والخامسة من مميّزاته أيضاً أنّه سيكون «نبياً» {وجاءت هذه الكلمة بصيغه النكرة لدلالة على العظمة} وأنّه من الصالحين.

فلما سمع زكريا بهذه البشارة غرق فرحاً وسروراً، ولم يمتلك نفسه في إخفاء تعجبّه من ذلك، فقال {ربّ أنّى يكون لي غلام وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر} فأجابه الله تعالى {قال كذلك الله يفعل ما يشاء} فلما سمع زكريا هذا الجواب الموجز الذي يشير إلى نفوذ إرادته تعالى ومشيئته، قنع بذلك.

{قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ }.

هنا يطلب زكريّا من الله إمارة على بشارته بمجيء يحيى. إنّ إظهار دهشته ـ كما قلنا ـ وكذلك طلب علامة من الله، لا يعنيان أبداً أنّه لا يثق بوعد الله، خاصّة وأنّ ذلك الوعد قد توكّد بقوله : {كذلك الله يفعل ما يشاء}. إنَّما كان يريد زكريّا أن يتحوّل إيمانه بهذا إيماناً شهودياً. كان يريد أن يمتلئ قلبه بالاطمئنان، كما كان إبراهيم يبحث عن اطمئنان القلب والهدوء الناشئين عن الشهود الحسّي.

{قال آيتك ألاَّ تكلّم الناس ثلاثة أيّام إلاَّ رمزاً}.

«الرمز» إشارة بالشفة، والصوت الخفي. ثمّ اتّسع المعنى في الحوار العادي، فأُطلق على كلّ كلام وإشارة غير صريحة إلى أمر من الأُمور.

أجاب الله طلب زكريّا هذا أيضاً، وعيَّن له علامة، وهي أنّ لسانه كفّ عن الكلام مدّة ثلاثة أيّام بغير أيّ نقص طبيعي، فلم يكن قادراً على المحادثة العادية.

ولكن لسانه كان ينطلق إذا ما شرع يسبّح الله ويذكره. هذه الحالة العجيبة كانت علامة على قدرة الله على كلّ شيء. فالله القادر على فكّ لجام اللسان عند المباشرة بذكره، قادر على أن يفكّ عقم رحم امرأة فيخرج منه ولداً مؤمناً هو مظهر ذكر الله. وهكذا تتّضح العلاقة بين هذه العلامة وما كان يريده زكريّا.

هذا المضمون يرد في الآيات الأُولى من سورة مريم أيضاً.

وفي الوقت نفسه يمكن أن تحمل هذه العلامة معنى آخر في طيّاتها، وهو أنّ إلحاح زكريّا على طلب العلامة والآية ـ وإن لم يكن أمراً محرّماً ولا مكروهاً ـ كان من نوع «ترك الأولى». لذلك قرّر له علامة، إضافة إلى ما فيها من بيان لقدرة الله، طافحة بالإشارة إلى تركه للأولى.

يتبادر هنا للذهن سؤال : أيتّسق بكم نبيّ مع مقام النبوّة وواجب الدعوة والتبليغ ؟

ليس من الصعب الإجابة على هذا السؤال، إذ أنّ هذه الحالة لا تتّسق مع مقام النبوّة عند استمرارها مدّة طويلة. أمّا حدوثها لفترة قصيرة يستطيع النبيّ خلالها اعتزال الناس والتوجّه إلى عبادة الله، فلا مانع فيه، كما أنّه خلال هذه المدّة يستطيع أن يخاطب الناس بالإيماء في الأُمور الضرورية، أو بتلاوة آيات الله، التي تعتبر ذكراً لله، وتبليغاً للرسالة الإلهية. وهذا ما قام به فعلاً، إذ كان يدعو الناس إلى ذكر الله بالإشارة.

{واذكر ربّك كثيراً وسبّح بالعشيّ والإبكار}.

«العشي» تطلق عادة على أوائل ساعات الليل، كما يقال «الإبكار» للساعات الأولى من النهار. وقيل إنّ «العشي» هو من زوال الشمس حتّى غروبها، و «الإبكار» من طلوع الفجر حتّى الظهر.

والراغب الاصفهاني يقول في «المفردات» : إنّ «العشي» من زوال الشمس حتّى الصباح، و«الإبكار» أوائل النهار.

وفي الآية يأمر الله زكريّا بالتسبيح. إنّ هذا التسبيح والذكر على لسان لا ينطق موقتاً دليل على قدرة الله على فتح المغلق، وكذلك هو أداء لفريضة الشكر لله الذي أنعم عليه بهذه النعمة الكبرى.

من الآيات الأُولى لسورة مريم يستفاد أنّ زكريّا لم ينفّذ هذا البرنامج وحده، بل طلب من الناس إيماءاً أن يسبّحوا الله صباح مساء شكراً على ما أنعم عليهم من موهبة ترتبط بمصير مجتمعهم ومن قائد كفوء مثل يحيى. وأضحت هذه الأيام أيّام شكر وتسبيح عام.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص267-272.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى