مقالات

أصول العقيدة الإسلامية في خطبة الزهراء عليها السلام

الحديث عن خطبة فاطمة الزهراء (عليها السلام) يعني الحديث عن معانٍ عظيمة لكلام ٱمرأة تمثل سيدة نساء العالمين بنص الشريعة المقدسة، حيث تبلورت هذه الشخصية في بيت الوحي الإلهي.. بيت النبوة والإمامة .. بل في بيوت أذن الله أنْ تُرفع ويُذكر فيها ٱسمه، كُلُّ ذلك يؤكد علينا الاهتمام بفقرات ومفردات هذه الخطبة الخالدة لها (عليها السلام) .. وٱلتزامًا وٱعتقادًا بأنَّ في أقوالها وسيرتها تكمن صورة من صور التكامل الإنساني والإيماني نحاول أنْ نقرأ قراءة تحليلية موجزة لبعض نصوص هذه الخطبة العظيمة وبيان علاقتها بالقرآن الكريم، أي الالتزام بالمنهج الذي يجمع بين القرآن والعترة.

– أولاً : التوحيد.

التوحيد هو جوهر وأصل دعوة الأنبياء والمرسلين الذين بُعثوا للبشرية على مدى تأريخها، والقرآن الكريم قد أكد ذلك بصورة كبيرة جدًّا، فلا تخلو سورة من بيان ما يتعلق بهذا الأمر وأهميته وغايته، وقد عبَّر عزوجل عنه ﺑ(الكلمة السواء) في خطابه لأصحاب الديانات السابقة على الإسلام، فقال تعالى: ((قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ)).

قالت (عليها السلام) في بيان ما يتعلق بتوحيد الله تعالى وآلائه على خلقه: ((الحَمْدُ للهِ عَلى ما أَنْعَمَ … وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةً جَعَلَ الإِخْلاصَ تَأويلَها، وَضمّنَ القُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ في التَفَكُّرِ مَعْقُولَها، المُمْتَنِعُ مِنَ الأَبْصَارِ رُؤيَتُهُ، وَمِنَ الأَلْسُنِ صِفَتُهُ، وَمِنَ الأَوْهامِ كَيْفِيَّتُهُ، ٱبْتَدَعَ الأَشْيَاءَ لا مِنْ شَيءٍ كَانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا ٱحْتِذاءِ أمْثِلَةٍ ٱمتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَهَا بِمَشِيَّتهِ، مِنْ غَيْرِ حَاجَةٍ مِنْهُ إِلى تَكْوينِها، وَلا فائِدَةٍ لَهُ في تَصْويرِها، إِلا تَثْبيتًا لِحِكْمَتِهِ، وَتَنْبيهًا عَلى طاعَتِهِ، وَإِظْهَارًا لِقُدْرَتِهِ، وَتَعَبُّدًا لِبَرِيَّتِهِ، وَإِعْزَازًا لِدَعْوَتِهِ، ثُمَّ جَعَلَ الثَّوَابَ عَلى طاعَتِهِ، وَوَضعَ العِقَابَ عَلى مَعْصِيَتِهِ، ذِيَادَةً لِعِبَادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً لَهُمْ إِلى جَنَّتِهِ)).

فهذه الكلمات تبيِّن بوضوح المسائل المهمة الدقيقة التي تتعلق بتوحيد الله تعالى، سواء توحيد الذات أم الصفات أم العبادة، وقد أشارت إلى ذلك المؤلفات في العقيدة الإسلامية بالإيجاز والتفصيل، وممن أجاد وأحسن في عقيدتنا في التوحيد إجمالاً العلامة الشيخ “محمد رضا المظفر” (قدس سره) (ت1383ﻫ/1964م) إذ يقول: ((ونعتقدُ بأنَّهُ يجبُ توحيدِ اللهِ تعالى من جميعِ الجهاتِ، فكما يجبُ توحيدُهُ في الذاتِ ونعتقدُ بأنَّهُ واحدٌ في ذاتهِ ووجوب وجودهِ، كذلكَ يجبُ ثانيًا توحيدهُ في الصفاتِ، وذلكَ بالاعتقادِ بأنَّ صفاتَهُ عينُ ذاتِهِ، وكذلكَ يجبُ ثالثًا توحيدهُ في العبادةِ، فلا تجوزُ عبادةُ غيرِهِ بوجهٍ من الوجوهِ، وكذا إشراكُهُ في أيِّ نوعٍ من أنواعِ العبادةِ واجبةً أو غيرَ واجبةٍ)).

وكذلك أشارت (عليها السلام) فيما يتعلق بآياته العظيمة التي تدل على عظمة الخالق في خلقه، إضافة إلى تنزيهه سبحانه الله وتعالى عمَّا لايليق به، ونحن في هذا المبحث لسنا بصدد شرح ألفاظ الخطبة الشريفة، بل بيان وذكر الملامح التي أشارت إليها في مجال العقيدة الإسلامية، فابتدأت تلك الخطبة بالحمد والثناء على الله تعالى؛ لأنه أصل كُلِّ ثناء دون سواه من الخلق كونه المنعم الأول على مخلوقاته كلِّها بنعمٍ لا تعد ولا تحصى، وبالتالي لا يمكن للعبد أنْ يقدم حقيقة شكرها، وفي هذا إشارة لقوله تعالى: ((وَإِنْ تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللهِ لاتُحْصُوهَا))، فلو تأملنا في قولها (عليها السلام): ((جَمَّ عَنِ الإحصاءِ عَدَدُها، ونأى عنِ الجزاءِ أمَدُها، وتفاوتَ عن الإداركِ أمَدُها)). لرأينا الدقة في التحميد والثناء على الله تعالى حيث ما أبلغها وأرقَّها من أَلفاظٍ، وأعظمها من معانٍ، تدل على الكمال واليقين، وهذه  -حقيقة- هي التربية الإسلامية التي يجب أنْ يكون عليها الإنسان تجاه خالقه تعالى والمنعم عليه بالنعم الظاهرة والباطنة، وقد قام الأئمة (عليهم السلام) بتربية المسلمين على ذلك حرصًا منهم في الحفاظ على العقيدة وجوهرها من الانحراف والضياع، فضلاً عن التأكيد على ذلك، فإنَّ فيما تقدم من الإشارة إلى نعم الله على عباده تأكيد على أنَّ كُلَّ ذلك يستوجب علينا الشكر له وإنْ لم نبلغ حقيقة ذلك مهما تقرَّب العبد إلى ربه، بل من أجل الحفاظ على تلك النعمة العظيمة وٱستزادتها، وفي هذا تفسير لدعوة القرآن الكريم حيث يقول تعالى: ((وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً))، وقال تعالى: ((وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)) وفي ذلك درس من دروس التربية القائمة على المنهج التكاملي للقرآن، فضلاً عن قاعدة الإحسان العقلية التي هي من أسس الفطرة الإنسانية والتي أشار إليها القرآن الكريم بقوله: ((هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلا الْإِحْسَانُ))

ثم أشارت الزهراء (عليها السلام) وهي في صدد هذا الأصل من أصول العقيدة إلى تنزيهه تعالى عما لا يليق به، وعن كُلِّ ما قد يتصوره بعض المسلمين بأنْ يجعل لله تعالى سبحانه من صفات لا تليق بساحته، ومنها ٱمتناع رؤيته تعالى رؤية مادية كما نرى الأشياء والأعراض، وبيان مواصفاته من حيث الجسم والمادة وما يتعلق بهما، وهذه كلها من أمهات مسائل التوحيد التي أكدت عليها الشريعة الإسلامية المقدسة من خلال القرآن والسنة الشريفة فهو ((لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ)) ، ((لا تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)).

في الختام نذكر إنَّ جوهر هذه الكلمات التي وردت في توحيد الله تعالى لها قرين وٱنطلاقة من القرآن الكريم والسنة الشريفة، فلو أردنا أنْ نستقصي الآيات القرآنية التي لها علاقة وثيقة بما تقدم من كلماتها (عليها السلام)  لاحتاج ذلك إلى مجلد كبير إنْ لم يكن مجلدات، فضلاً عن  الأحاديث الشريفة التي وردت، ولكن نكتفي بما ذكره أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في ذلك إذ يقول: ((أَوَّلُ الدينِ معرفتهُ، وكمالُ معرفتهِ التصديقُ به، وكمالُ التصديقِ به توحيدُهُ، وكمالُ توحيدهِ الإخلاصُ له، وكمالُ الإخلاصِ له نفيُ الصفاتِ عنه، لشهادةِ كُلِّ صفةٍ أنها غيرُ الموصوفِ، وشهادةُ كُلِّ موصوفٍ أنهُ غيرُ الصفةِ)).

بل كان من كلماتها العظيمة حول الغاية من التوحيد والإيمان به هو طهارة النفس والروح من دنس الشرك وآثامه إذ قالت: ((فَجَعَلَ اللهُ الإِيمانَ تَطْهِيرًا لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ)).

إنَّ التوحيد فضلاً عن كونه أصلاً من أصول العقيدة التي لا يمكن الغفلة عنها فقد تضمنت كلمات أهل البيت (عليه السلام) أنَّ التوحيد هو أول حقوق الله تعالى على عباده التي يجب علينا مراعاتها حق رعايتها، وورد في رسالة الحقوق للإمام زين العابدين (عليه السلام) قوله: ((فَأَمَّا حَقُّ اللهِ الأَكْبَرُ فَإِنَّكَ تَعْبُدُهُ لا تُشْرِكْ بِهِ شَيْئًا، فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ بِإِخْلاصٍ جَعَلَ لَكَ عَلى نَفْسِهِ أَنْ يَكْفِيَكَ أَمْرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَيَحْفَظَ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْهَا)).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى