مقالات

تفسير سورة المسد

قال تعالى : {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ } [المسد : 1 – 5]

تفسير مجمع البيان

– ذكر الطبرسي في تفسير هذه الآيات (1) 

{تبت يدا أبي لهب وتب} أي خسرت يداه وخسر هوعن مقاتل وإنما قال خسرت يداه لأن أكثر العمل يكون باليد والمراد خسر عمله وخسرت نفسه بالوقوع في النار وقيل أن اليد هنا صلة كقولهم يد الدهر ويد السنة قال :

وأيدي الرزايا بالذخائر مولع وقيل معناه صفرت يداه من كل خير قال الفراء : الأول دعاء والثاني خبر فكأنه قال أهلكه الله وقد هلك وفي حرف عبد الله وأبي وقد تب وقيل أن الأول أيضا خبر ومعناه أنه لم تكتسب يداه خيرا قط وخسر مع ذلك هو نفسه أي تب على كل حال وأبو لهب هو ابن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وكان شديد المعاداة والمناصبة له قال طارق المحاربي : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول أيها الناس قولوا لا إله إلا الله تفلحوا وإذا برجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول يا أيها الناس أنه كذاب فلا تصدقوه فقلت من هذا فقالوا هو محمد يزعم أنه نبي وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب وإنما ذكر سبحانه كنيته دون اسمه لأنها كانت أغلب عليه وقيل لأن اسمه عبد العزى فكره الله سبحانه أن ينسبه إلى العزى وأنه ليس بعبد لها وإنما هو عبد الله وقيل بل اسمه كنيته وإنما سمي بذلك لحسنه وإشراق وجهه وكانت وجنتاه كأنهما تلتهبان عن مقاتل .

 {ما أغنى عنه ماله وما كسب} أي ما نفعه ولا دفع عنه عذاب الله ماله وما كسبه ويكون ما في قوله {وما كسب} موصولة والضمير العائد من الصلة محذوف وقيل معناه أي شيء أغنى عنه ماله وما كسب يعني ولده لأن ولد الرجل من كسبه وذلك أنه قال لما أنذره النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) بالنار إن كان ما تقول حقا فإني أفتدي بمالي وولدي ثم أنذره سبحانه بالنار فقال {سيصلى نارا ذات لهب} أي سيدخل نارا ذات قوة واشتعال تلتهب عليه وهي نار جهنم وفي هذا دلالة على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وصحة نبوته لأنه أخبر أن أبا لهب يموت على كفره وكان كما قال .

 {وامرأته} وهي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان (حمالة الحطب) كانت تحمل الشوك والعضاة فتطرحه في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إذا خرج إلى الصلاة ليعقره عن ابن عباس وفي رواية الضحاك قال الربيع بن أنس كانت تبث وتنشر الشوك على طريق الرسول فيطأه كما يطأ أحدكم الحرير وقيل أنها كانت تمشي بالنميمة بين الناس فتلقي بينهم العداوة وتوقد نارها بالتهييج كما توقد النار الحطب فسمى النميمة حطبا عن ابن عباس في رواية أخرى وقتادة ومجاهد وعكرمة والسدي قالت العرب فلان يحطب على فلان إذا كان يغري به قال (ولم يمش بين الحي بالحطب الرطب) أي لم يمش بالنميمة وقيل حمالة الحطب معناه حمالة الخطايا عن سعيد بن جبير وأبي مسلم ونظيره قوله وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم .

 {في جيدها حبل من مسد} أي في عنقها حبل من ليف وإنما وصفها بهذه الصفة تخسيسا لها وتحقيرا وقيل حبل يكون له خشونة الليف وحرارة النار وثقل الحديد يجعل في عنقها زيادة في عذابها وقيل في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا تدخل من فيها وتخرج من دبرها وتدار على عنقها في النار عن ابن عباس وعروة بن الزبير وسميت السلسلة مسدا بمعنى أنها ممسودة أي مفتولة وقيل أنها كانت لها قلادة فاخرة من جوهر فقالت لأنفقنها في عداوة محمد فيكون عذابا يوم القيامة في عنقها عن سعيد بن المسيب ويروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت لما نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أم جميل بنت حرب ولها ولولة وفي يدها فهر(2) وهي تقول ((مذمما أبينا ودينه قلينا (3) وأمره عصينا)) والنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) جالس في المسجد ومعه أبوبكر فلما رآها أبوبكر قال يا رسول الله قد أقبلت وأنا أخاف أن تراك قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) إنها لن تراني وقرأ قرآنا فاعتصم به كما قال وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا فوقفت على أبي بكر ولم تر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلّم) فقالت يا أبا بكر أخبرت أن صاحبك هجاني فقال لا ورب البيت ما هجاك فولت وهي تقول ((قريش تعلم إني بنت سيدها)) .

وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال صرف الله سبحانه عني أنهم يذمون مذمما وأنا محمد ومتى قيل كيف يجوز أن لا ترى النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وقد رأت غيره فالجواب يجوز أن يكون الله قد عكس شعاع عينيها أو صلب الهواء فلم ينفذ فيه الشعاع أو فرق الشعاع فلم يتصل بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) وروي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال ما زال ملك يسترني عنها وإذا قيل هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الإيمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن أ لا ترى إلى قوله سبحانه في قصة فرعون {الآن وقد عصيت قبل} وفي هذا دلالة على أنه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه ولهذا خص رد التوبة عليه بذلك الوقت وأيضا فلو قدرنا أن أبا لهب سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلّم) قال لو آمنت هل أدخل النار لكان (صلى الله عليه وآله وسلّم) يقول له لا وذلك لعدم الشرط .

________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج10 ، ص475-478 .

2- الفهر : حجر على مقدار ملء الكف .

3- كانت قريش تسمي رسول الله (ص) مذمماً . وقلينا اي : أبغضنا .

تفسير الكاشف

– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه الآيات (1) 

{تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وتَبَّ} . التبّ الهلاك ، وتبّت الأولى دعاء عليه بالهلاك والخسران ، وتبّ الثانية إخبار بأنه هالك خاسر لا محالة ، ويدا أبي لهب كناية عن شخصه ، مثل {على اليد ما أخذت حتى تؤدي} لأن اليد مظهر القوة وأداة العمل ، وأبو لهب هو عبد العزى بن عبد المطلب بن هشام ، فهو عم النبي (صلى الله عليه واله وسلم) ولكنه من أشد الناس عداوة له . . قال المفسرون والرواة : ان النبي (صلى الله عليه واله وسلم) صعد في ذات يوم على الصفا ، ونادى بطون قريش فاجتمعوا ومن جملتهم أبو لهب .

فقال : أرأيتم لو أخبرتكم ان خيلا بالوادي تريد الغارة عليكم أكنتم تصدقوني ؟ .

قالوا : نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا . فقال : انا نذير لكم بين يدي عذاب شديد . فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا ، تبا لك . فنزلت هذه السورة .

{ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وما كَسَبَ} . لا يغني عنه مال ولا جاه ولا أولاد غداة الحساب والجزاء ، فكل ذلك حجة عليه ، وحسرة له {سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ} .

هذا هو جزاؤه ، ومآله جهنم وساءت مصيرا .

{وامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} . امرأة أبي لهب هي أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وعمة معاوية ، والحطب كناية عن الشر والإثم الذي يقودها إلى النار ، فلقد كانت في غاية العداوة لرسول اللَّه (صلى الله عليه واله وسلم) تمشي بالنميمة عليه بين الناس لإطفاء دعوته ، والمناسبة بين النار والحطب واضحة . . هذا ، إلى ان العرب يلقبون المفسد النمام بحامل الحطب لأنه يوقد نار الفتنة . وقيل : انها كانت تجمع الشوك وتنثره في طريق الرسول الأعظم (صلى الله عليه واله وسلم) {فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ} . الجيد العنق ، والمسد الليف . . بعد أن وصفها سبحانه بحمّالة الحطب أعطاها هذه الصورة العجيبة :

تشد الحطب على رأسها بطرف من الحبل ، وطرفه الآخر في عنقها ، فكأن الحطب تاج ، والحبل قلادة .

وتسأل : لقد حارب دعوة الرسول وآذاه كثير من طغاة الشرك كعقبة بن أبي معيط وأبي جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل وغيرهم ، ومع ذلك لم يصرح القرآن بأسمائهم ، فلما ذا خص أبا لهب بالذكر وأنزل اللَّه فيه هذه السورة دون غيره ؟ .

وأجاب الشيخ محمد عبده : بأن أبا لهب كان أشهر المعاندين لدعوة الرسول (صلى الله عليه واله وسلم)والممثل الأكبر لهم ، وقد تأثر النبي من حركاته ، ومن ثم خصه اللَّه بالذكر من دونهم .

وختم الشيخ محمد عبده تفسير هذه السورة بقوله : من قال لك : لا يجوز ان تستند في حكم من الأحكام إلى كتاب اللَّه وسنّة نبيه بالغا ما بلغت من العلم ، بل يجب عليك ان ترجع إلى قول فلان ورأي فلان ، من قال لك هذا فهو أبو لهب ، وكل امرأة تمشي بالنميمة والفساد بين الناس فهي حمّالة الحطب في جيدها حبل من مسد .

________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج7 ، ص621-622 .

تفسير الميزان

– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) 

وعيد شديد لأبي لهب بهلاك نفسه وعمله وبنار جهنم ولامرأته ، والسورة مكية .

قوله تعالى : {تبت يدا أبي لهب وتب} التب والتباب هو الخسران والهلاك على ما ذكره الجوهري ، ودوام الخسران على ما ذكره الراغب ، وقيل : الخيبة ، وقيل الخلو من كل خير والمعاني – كما قيل – متقاربة فيد الإنسان هي عضوه الذي يتوصل به إلى تحصيل مقاصده وينسب إليه جل أعماله ، وتباب يديه خسرانهما فيما تكتسبانه من عمل وإن شئت فقل : بطلان أعماله التي يعملها بهما من حيث عدم انتهائها إلى غرض مطلوب وعدم انتفاعه بشيء منها وتباب نفسه خسرانها في نفسها بحرمانها من سعادة دائمة وهو هلاكها المؤبد .

فقوله : {تبت يدا أبي لهب وتب} أي أبو لهب ، دعاء عليه بهلاك نفسه وبطلان ما كان يأتيه من الأعمال لإطفاء نور النبوة أو قضاء منه تعالى بذلك .

وأبو لهب هذا هو أبو لهب بن عبد المطلب عم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان شديد المعاداة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مصرا في تكذيبه مبالغا في إيذائه بما يستطيعه من قول وفعل وهو الذي قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : تبا لك لما دعاهم إلى الإسلام لأول مرة فنزلت السورة ورد الله التباب عليه .

وذكر بعضهم أن أبا لهب اسمه وإن كان في صورة الكنية ، وقيل : اسمه عبد العزى وقيل : عبد مناف وأحسن ما قيل في ذكره في الآية بكنيته لا باسمه إن في ذلك تهكما به لأن أبا لهب يشعر بالنسبة إلى لهب النار كما يقال أبو الخير وأبو الفضل وأبو الشر في النسبة إلى الخير والفضل والشر فلما قيل : {سيصلى نارا ذات لهب} فهم منه أن قوله : {تبت يدا أبي لهب} في معنى قولنا : تبت يدا جهنمي يلازم لهبها .

وقيل : لم يذكر باسمه وهو عبد العزى لأن عزى اسم صنم فكره أن يعد بحسب اللفظ عبدا لغير الله وهو عبد الله وإن كان الاسم إنما يقصد به المسمى .

قوله تعالى : {ما أغنى عنه ماله وما كسب} ما الأولى نافية وما الثانية موصولة ومعنى {ما كسب} الذي كسبه بأعماله وهو أثر أعماله أو مصدرية والمعنى كسبه بيديه وهو عمله ، والمعنى ما أغنى عنه عمله .

ومعنى الآية على أي حال لم يدفع عنه ماله ولا عمله – أو أثر عمله – تباب نفسه ويديه الذي كتب عليه أودعي عليه .

قوله تعالى : {سيصلى نارا ذات لهب} أي سيدخل نارا ذات لهب وهي نار جهنم الخالدة ، وفي تنكير لهب تفخيم له وتهويل .

قوله تعالى : {وامرأته حمالة الحطب} عطف على ضمير الفاعل المستكن في {سيصلى} والتقدير : وستصلى امرأته إلخ و{حمالة الحطب} بالنصب وصف مقطوع عن الوصفية للذم أي أذم حمالة الحطب ، وقيل : حال من {امرأته} وهو معنى لطيف على ما سيأتي .

قوله تعالى : {في جيدها حبل من مسد} المسد حبل مفتول من الليف ، والجملة حال ثانية من امرأته .

والظاهر أن المراد بالآيتين أنها ستتمثل في النار التي تصلاها يوم القيامة في هيئتها التي كانت تتلبس بها في الدنيا وهي أنها كانت تحمل أغصان الشوك وغيرها تطرحها بالليل في طريق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تؤذيه بذلك فتعذب بالنار وهي تحمل الحطب وفي جيدها حبل من مسد .

قال في مجمع البيان ، : وإذا قيل : هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة وهل كان يقدر على الإيمان ولو آمن لكان فيه تكذيب خبر الله سبحانه بأنه سيصلى نارا ذات لهب .

فالجواب أن الإيمان يلزمه لأن تكليف الإيمان ثابت عليه وإنما توعده الله بشرط أن لا يؤمن انتهى موضع الحاجة .

أقول : مبنى الإشكال على الغفلة من أن تعلق القضاء الحتمي منه تعالى بفعل الإنسان الاختياري لا يستوجب بطلان الاختيار واضطرار الإنسان على الفعل فإن الإرادة الإلهية – وكذا فعله تعالى – إنما يتعلق بفعله الاختياري على ما هو عليه أي إن يفعل الإنسان باختياره كذا وكذا فلولم يقع الفعل اختيارا تخلف مراده تعالى عن إرادته وهو محال وإذا كان الفعل المتعلق للقضاء الموجب اختياريا كان تركه أيضا اختياريا وإن كان لا يقع فافهم وقد تقدم هذا البحث في غير موضع من المباحث السابقة .

فقد ظهر بذلك أن أبا لهب كان في اختياره أن يؤمن وينجو بذلك عن النار التي كان من المقضي المحتوم أن يدخلها بكفره .

ومن هذا الباب الآيات النازلة في كفار قريش أنهم لا يؤمنون كقوله : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6] ، وقوله : { لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [يس : 7] ، ومن هذا الباب أيضا آيات الطبع على القلوب .

______________________

1- الميزان ، الطباطبائي ، ج20 ، ص358-360 .

تفسير الامثل

– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه الآيات (1) 

 (تبت يدا أبي لهب)

هذه السّورة ـ كما ذكرنا في سبب نزولها ـ ترد على بذاءات أبي لهب عم النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وابن عبد المطلب . وكان من ألد أعداء الإسلام ، وحين صدح النّبي بدعوته واعلنها على قريش وأنذرهم بالعذاب الإلهي قال : «تباً لك ألهذا دعوتنا جميعاً»؟!

والقرآن يرد على هذا الإنسان البذيء ويقول له : {تبت يدا أبي لهب وتب} .

«التّب» و«التاب» يعني الخسران المستمر كما يقول الراغب في مفرداته أو هو الخسران المنتهي بالهلاك كما يقول الطبرسي في مجمع البيان .

وبعض اللغويين قال إنّه القطع والبتر . وهذا المعنى الأخير هو النتيجة الطبيعية للخسران المستمر المنتهي بالهلاك .

الهلاك والخسران في الآية يمكن أن يكون دنيوياً ، ويمكن أن يكون معنوياً أخروياً ، أوكليهما .

وهنا يثار تساؤل بشأن سبب ذم هذا الشخص باسمه ـ وهو خلاف نهج القرآن ـ وبهذه الشدّة .

يتّضح ذلك لو عرفنا مواقف أبي لهب من الدعوة .

اسمه «عبد العزى» وكنيته «أبو لهب» وقيل إنّه كني بذلك لحمرة كانت في وجهه .

وامرأته «أم جميل» اُخت أبي سفيان ، وكانت من أشدّ النّاس عداوة وأقذعهم لساناً تجاه النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) ودعوته .

وفي الرّواية عن «طارق المحاربي» قال : بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا بشاب يقول : «يا أيّها النّاس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا» . وإذا برجل خلفه يرميه قد أرمى ساقيه وعرقوبيه ويقول : يا أيّها النّاس إنّه كذاب فلا تصدقوه . فقلت : من هذا؟ فقالوا هو محمّد يزعم أنهّ نبيّ . وهذا عمّه أبو لهب يزعم أنّه كذاب (2) .

وفي رواية عن {ربيعة بن عباد» قال : كنت مع أبي أنظر إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه . يقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على القبيلة فيقول : «يا بني فلان . إنّي رسول الله إليكم . آمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصدقوني وتمنعوني حتى أنفذ عن الله ما بعثني به» . وإذا فرغ من مقالته قال : الآخر من خلفه : يا بني فلان . هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن ، إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه . فقلت لأبي : من هذا؟ قال : عمّه أبو لهب . (3)

وفي رواية أُخرى : وكان من عظيم خطر أبي لهب ضد الدعوة الإسلامية أنّه كلما جاء وفد إلى النّبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألون عنه عمّه أبا لهب ـ اعتباراً بكبره وقرابته وأهميته ـ كان يقول لهم : إنّه ساحر ، فيرجعون ولا يلقونه ، فأتاه وفد فقالوا : لا ننصرف حتى نراه ، فقال : إنا لم نزل نعالجه من الجنون فتباً له وتعساً (4) .

من هذه الرّوايات نفهم بوضوح أن أبا لهب كان يتتبع النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) غالباً كالظلّ . وما كان يرى سبيلا لإيذائه إلاّ سلكه . وكان يقذعه بأفظع الألفاظ . ومن هنا كان أشدّ أعداء الرسول والرسالة . ولذلك جاءت هذه السّورة لتردّ على أبي لهب وامرأته بصراحة وقوّة (5) .إنّه الوحيد الذي لم يوقع على ميثاق حماية بني هاشم للرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) ، ووقف في صف الأعداء ، واشترك في عهودهم . من كلّ ما سبق نفهم الوضع الإستثنائي لهذه السّورة .

{ما أغنى عنه ماله وما كسب} ، فليس با مكان أمواله أن تدرأ عنه العذاب الالهي (سيصلى ناراً ذات لهب) .

من الآية الأولى نفهم أنّه كان ثرياً ينفق أمواله في محاربة النّبي(صلى الله عليه وآله وسلم) .

وأبو لهب ناره ذات لهب يصلاها يوم القيامة . وقيل : يصلاها في الدنيا قبل الآخرة . و«لهب» جاءت بصيغة النكرة لتدل على عظمة لهب تلك النّار .

لا أبا لهب ولا أي واحد من الكافرين والمنحرفين تغنيه أمواله ومكانته الإجتماعية من عذاب الله ، كما يقول سبحانه : {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء : 88 ، 89]

بل لم تغنه في الدنيا من سوء المصير . حيث جاء في الرّواية ، أنّ أبا لهب لم يشترك في بدر ، بل ارسل من ينوب عنه . وبعد اندحار المشركين وعودتهم إلى مكّة ، هرع أبو لهب ليسأل أبا سفيان عن الخبر . فأخبره أبو سفيان بالهزيمة وقال : «وايم الله ما لُمت النّاس . لقينا رجالا بيضاً على خيل بلق بين السماء والأرض . . .» قال أبو رافع (مولى العباس) وقد كان جالساً : تلك الملائكة . فرفع أبو لهب يده فضرب وجهه ضربة شديدة ، ثمّ حمله وضرب به الأرض ، ثمّ برك عليه يضربه وكان رجلا ضعيفاً .

وما أن شهدت أم الفضل{زوجة العباس) ، وكانت جالسة أيضاً ، ذلك حتى أخذت عموداً وضربت أبا لهب على رأسه وقالت : تستضعفه إن غاب عنه سيّده؟! فقام مولياً ذليلا .

قال أبو رافع : فو الله ما عاش إلاّ سبع ليال حتى رماه الله بالعدسة (مرض يشبه الطاعون) فمات . وقد تركه أبناه ليلتين أو ثلاثة ما يدفنانه حتى انتن في بيته .

فلما عيّرهما النّاس بذلك أخذ وغُسل بالماء قذفا عليه من بعيد ، ثمّ أخذوه فدفنوه بأعلى مكّة وقذفوا عليه الحجارة حتى واروه (6) .

{وامرأته حمالة الحطب (7) ، في جيدها حبل من مسد} .

الآيتان تتحدثان عن ((أم جميل)) امرأة أبي لهب ، وأخت أبي سفيان ، وعمّة معاوية . وتصفانها بأنّها تحمل الحطب كثيراً ، وفي رقبتها حبل من ليف النخيل .

ولماذا وصفها القرآن بأنّها حمالة الحطب ؟

قيل : لأنّها كانت تأخذ الحطب المملوء بالشوك وتضعه على طريق رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) لتدمي قدماه .

وقيل : إنّه كناية عن النميمة .

وقيل : إنّه كناية عن شدّة البخل ، فهي مع كثرة ثروتها أبت أن تساعد الفقراء وكانت شبيهة بحمال الحطب الفقير .

وقيل : إنّها في الآخرة تحمل أوزاراً ثقيلة على ظهرها .

وبين هذه المعاني ، المعنى الأوّل أنسب ، وإن كان الجمع بينها غير مستبعد أيضاً .

«الجيد» هو الرقبة ، وجمعه أجياد . وقال بعض اللغويين : الجيد والعنق والرقبة لها معنى واحد ، مع تفاوت هو إن الجيد أعلى الصدر ، والعنق القسم الخلفي من الرقبة ، والرقبة لجميعها ، وقد يسمّى الإنسان بها كقوله سبحانه : (فك رقبة) أي فك الإنسان وإطلاق سراحه (8) .

«مسد» هو الحبل المفتول من الألياف . وقيل : حبل يوضع على رقبتها في جهنّم ، له خشونة الألياف وحرارة النّار وثقل الحديد .

وقيل : إنّ نساء الأشراف كن يرين شخصيتهنّ في وسائل الزينة وخاصّة القلادة الثمينة . والله سبحانه يلقي في عنقها يوم القيامة حبل من ليف للإهانة . أو إن التعبير أساساً للتحقير والإهانة .

وقيل : إنّ هذه العبارة تشير إلى أنّ أم جميل أقسمت أن تنفق ثمن قلادتها الثمينة على طريق معاداة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) . ولذلك تقرر لها هذا العذاب .

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج15 ، ص591-594 .

2 ـ مجمع البيان ، ج10 ، ص559 .

3 ـ في ظلال القرآن ، ج8 ، ص697 .

4 ـ تفسير الفرقان ، ج30 ، ص503 .

5 ـ المصدر السابق .

6 ـ بحار الأنوار ، ج19 ، ص227 .

7 ـ «امرأته» معطوف على ضمير مستتر في «سيصلى» و«حمالة» حال منصوب . وقيل إنّها منصوبة بالشتم ، كما ذهب إلى ذلك الزمخشري في الكشاف ، والتقدير : أذّم حمالة الحطب . والمعنى الأوّل أفضل .

8 ـ التحقيق في كلمات القرآن الكريم ، ج2 ، ص158 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى