مقالات

الآثار البرزخية للذنوب

حقيقة البرزخ:

البرزخ في اللغة: “الحاجز بين الشَّيئين والمانع من اختلاطهما وامتزاجهما”1.

وقد جاء ذكر البرزخ في القرآن في ثلاثة مواضع، كلّها بالمعنى اللغوي المتقدِّم، قال تعالى: ﴿مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَ يَبْغِيَانِ﴾2، و﴿وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا﴾3، و﴿وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ﴾4.

فالقرآن الكريم أراد من هذا الاستخدام للفظ البرزخ أن يوضح أنّ هناك عالماً آخر يفصل بين الدُّنيا والآخرة، ولا بدّ للإنسان من المرور به كمقدّمة ليوم القيامة، وفي الرِّوايات ورد أنّ البرزخ هو القبر، وأنَّه عالم الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة، روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “البرزخ القبر، وهو الثّواب والعقاب بين الدُّنيا والآخرة”5.

ولعالم البرزخ عقبات كثيرة وشديدة يمرّ بها الإنسان، روي عن الإمام الصَّادق عليه السلام: “إنّ بين الدُّنيا والآخرة ألف عقبة، أهونها وأيسرها الموت”6، والآثار البرزخية هي تبعات الأعمال وعواقبها وآثارها التي قام بها الإنسان في نشأة عالم الدُّنيا، وذلك حسب ارتباطه، بعمله، وتظهر هذه الآثار بما يتناسب مع طبيعة عالم البرزخ، وأنّ هذا العالم (البرزخ) محجوب عن الأحياء، فلو رُفع الحجاب لرأى الأحياء حياة أهل البرزخ، ولأدّى ذلك ربما إلى إقلاعهم عن ذنوبهم، وأنّ الحاجب بين عالم الدُّنيا وعالم البرزخ هو تعلّق الرُّوح بهذا البدن، وأنّ الحجاب يزول عند انفكاك هذا التعلّق، وهذا ما يصطلح عليه قبض الرُّوح.

آثار الذنوب في البرزخ:

1. سكرات الموت وشدة النزع:

قال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾7.

سكرات الموت من العقبات الصعبة، فشدائدها تحيط بالمحتضر من جميع الجهات؛ فمن جهةٍ يواجه شدّة المرض والوجع وذهاب القوى من البدن، ومن جهةٍ أخرى يواجه مشهد العائلة من بكاء وعويل ووداع أحبة، ومن جهةٍ ثالثة فراق ما جمع في عالم الدُّنيا من مالٍ وأملاكٍ وغير ذلك، ومن جهةٍ رابعةٍ يواجه قدومه على نشأةٍ هي غير هذه النشأة، ثمّ إنّ عينيه تريان أشياء لم ترها من قبل، وقد اجتمع عليه إبليس وأعوانه ليوقعوه في الشك، وهم يحاولون جاهدين أن يسلبوه إيمانه؛ ليخرج من الدُّنيا بلا إيمان، هذا كلّه إلى جانب هول حضور ملك الموت، وبأيّ صورةٍ وهيئةٍ سيأتي، وبأيّ نحوٍ سوف يَقبض روحه8.

فملك الموت عزرائيل عليه السلام لا يأتي بصورةٍ واحدةٍ لكلِّ النَّاس، فالصورة إمّا قبيحةٌ وإمّا جميلةٌ، بل إنّ شدّة قُبح صورته، أو شدّة جمالها مرتبطةٌ بأعمال الإنسان في الدنيا، فإذا كانت أعماله صالحةً أتاه الملك بصورةٍ جميلة، وإذا كان مبتلىً بالرذائل والمعاصي أتاه الملك بصورةٍ قبيحةٍ، يقول الإمام الخميني رضوان الله عليه في موضع آخر: “إنّ لكلّ من الأعمال الحسنة والأفعال العبادية صورةً باطنيةً ملكوتيةً وأثراً في قلب العابد، أمّا الصورة الباطنية فهي التي تعمر العوالم البرزخية والجنّة الجسمانية؛ لأنّ أرض الجنّة قاع خاليةٌ من كلّ شيء، وإنّ الأذكار والأعمال مواد إنشاء وبناء لها”9.

روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “ما من الشِّيعة عبدٌ يقارف أمراً نهيناه عنه فيموت حتَّى يُبتلى ببليّة تُمحَّصُ بها ذنوبه، إمّا في مالٍ، وإمّا في ولدٍ، وإمّا في نفسه، حتَّى يلقى الله عزّ وجلّ وما له ذنبٌ، وإنّه ليبقى عليه الشيء من ذنوبه فيُشدَّدُ به عليه عند موته”10.

وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله يشبِّه فيه الموت بالمصفاة، فيقول: “الموت هو المصفاة تصفّي المؤمنين من ذنوبهم، فيكون آخر ألم يصيبهم كفّارة آخر وزرٍ بقي عليهم، وتصفّي الكافرين من حسناتهم، فيكون آخر لذّةٍ أو راحةٍ تلحقهم هو آخر ثواب حسنة تكون لهم”11.

وعليه فإنّ قبض روح الإنسان شدةً أو ضعفاً، وصورة الملك قُبحاً وحسناً مرتبطة بطبيعة الأعمال في نشأة الدُّنيا، والتي تظهر آثارها البرزخية من لحظة النّزع، وتستمر في كل عقبات البرزخ، فالإنسان لحظة سكرات الموت والاحتضار يشاهد صور أعماله وآثارها.

2. وحشة القبر وغربته:

كتب أمير المؤمنين عليه السلام لمحمّد بن أبي بكر: “يا عباد الله، ما بعد الموت لمن لا يُغفر له أشدّ من الموت، القبر فاحذروا ضيقه وضنكه وظلمته وغربته”‏12. وحشة القبر هي أول المنازل التي يمرّ بها الإنسان، وقد عُبّر عنها في الروايات بتعبيرات متعدِّدة، وهذه التعبيرات إمّا أهوال مستقلّة بذاتها، أو تعبّر عن وحشة القبر لكن بألفاظ متعدِّدة، من قبيل:
– غمّ القبر.
– ضيق القبر.
– ظلمة القبر.
– وحشة القبر 13.

وإنّ لهذا المنزل أهوال عظيمة ومنازل ضيّقة ومهولة، يصعب تصوّرها على العقل البشري؛ ولذا شرحها لنا أئمّة أهل البيت عليهم السلام.

تبدأ المنازل بوحشة القبر، فضغطة القبر، ثم المسألة في القبر وهكذا. ونحن نذكر هذه الأمور باختصارٍ شديدٍ للفت النَّظر إلى علاقتها بطبيعة الأعمال في عالم الدُّنيا، فالذّنوب والمعاصي تظهر آثارها في ذلك العالم.

وما يؤيّد هذا الأمر (أهوال القبر) ما ورد في الروايات من استحباب التمهُّل في إنزال الميِّت إلى قبره، حيث روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “وإذا حُمل الميت إلى قبره فلا يفاجأ به القبر؛ لأن للقبر أهوالاً عظيمة، ويتعوّذ حامله بالله من هول المطّلع، ويضعه قرب شفير القبر، ويصبر عليه هنيهةً، ثم يقدِّمه قليلاً ويصبر عليه هنيهة؛ ليأخذ أهبّته، ثم يقدّمه إلى شفير القبر”14.

وليست الوحشة حال جميع النَّاس لزاماً، بل هناك فئةٌ من النَّاس يؤمنُها الله منها، كما ورد في الدعاء عن الإمام زين العابدين عليه السلام: “اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد، واجعلني وجميع إخواني بك مؤمنين، وعلى الإسلام ثابتين، ولفرائضك مؤدّين… وعند معاينة الموت مستبشرين، وفي وحشة القبر فرحين، وبلقاء منكر ونكير مسرورين، وعند مساءلتهم بالصّواب مجيبين…” 15.

هذا الدُّعاء -وغيره من الرّوايات- يدلّ على التَّرغيب في فعل ما يُزيلُ وحشةَ القبر، وما تستأنس به النُّفوس، وهي الأخلاق الفاضلة والأعمال الحسنة، وذلك لما روي من أنّهما يظهران بصورةٍ حسنةٍ في القبر، وهكذا الأعمال السيّئة تؤدّي إلى وحشة القبر وشدّة أهواله، روي عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام أنّه قال: “… فإذا دخلها (أي حفرة القبر) عبدٌ مؤمنٌ، قال: مرحباً وأهلاً، أما والله لقد كنت أحبّك وأنت تمشي على ظهري، فكيف إذا دخلت بطني فسترى ذلك، قال عليه السلام: فيفسح له مدى البصر، ويفتح له باب يرى مقعده من الجنة، قال: ويخرج من ذلك رجلٌ لم تر عيناه شيئاً قطّ أحسن منه، فيقول: يا عبد الله، ما رأيت شيئاً قط أحسن منك! فيقول: أنا رأيك 16 الحسن الذي كنت عليه، وعملك الصالح الذي كنت تعمله…”17.

أعمالٌ منجيةٌ من وحشة القبر:

الأعمال الحسنة تخفّف على الإنسان شدَّة نزع الرُّوح وسكرات الموت وعالم القبر، بخلاف الأعمال السيِّئة، وقد ورد في الرِّوايات بعض الأعمال المُنجية من وحشة القبر، نذكر منها:

– ولاية الإمام أمير المؤمنين عليه السلام:
عن أبي سعيد الخدري أنّه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله: “يا علي، أبشر وبشرّ، فليس على شيعتك حسرةٌ عند الموت، ولا وحشة في القبور، ولا حزن يوم النشور، ولكأنّي بهم يخرجون من جدث القبور ينفضون التراب عن رؤوسهم ولحاهم، يقولون: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ﴾1819.

– الصدقة، وصلاة ليلة الوحشة 20:
عن رسول الله صلى الله عليه واله: “لا يأتي على الميت ساعة أشدّ من أول ليلة، فارحموا موتاكم بالصدقة، فإن لم تجدوا فليصلِّ أحدكم ركعتين، يقرأ في الأولى بفاتحة الكتاب مرّة وآية الكرسي مرة وقل هو الله أحد مرتين، وفي الثانية بفاتحة الكتاب مرّة وألهاكم التكاثر عشر مرات ويسلم، ويقول: اللهم صلّ على محمد وآل محمد وأبعث ثوابهما إلى قبر ذلك الميت فلان ابن فلان، فيبعث الله من ساعته ألف ملك إلى قبره، مع كلّ ملك ثوب وحلّة، ويوسع في قبره من الضيق إلى يوم ينفخ في الصور… “21.

– إتمام الركوع:
فقد ورد في الحديث عن الإمام الباقر عليه السلام أنّه قال: “من أتمّ ركوعه لم تدخله وحشة القبر”22.

– قراءة سورة ياسين:
رُوي عن الإمام الصادق عليه السلام قال: “إنّ لكلّ شي‏ء قلباً، وإنّ قلب القرآن يس، من قرأها قبل أن ينام أو في نهاره قبل أن يُمسي، كان في نهاره من المحفوظين والمرزوقين حتَّى يُمسي، ومن قرأها في ليله قبل أن ينام وكّل الله به مئة ألف ملك يحفظونه من كلّ شيطان رجيم ومن كلّ آفة، وإن مات في يومه أدخله الله الجنّة”23.

– الصيام في شهر شعبان:
ففي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه واله أنّه قال: “من صام اثني عشر يوماً من شعبان زاره في قبره كلّ يوم سبعون ألف ملك إلى النفخ في الصور”24.

– عيادة المريض:
ففي الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “أيّما مؤمن عاد مؤمناً في الله عزّ وجلّ في مرضه، وكّل الله به ملكاً من العوّاد يعوده في قبره، ويستغفر له إلى يوم القيامة”25.

– صبر المرأة على زوجها:
ورد في الحديث عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “ثلاثة من النساء يرفع الله عنهنّ عذاب القبر، ويكون محشرهنّ مع فاطمة بنت محمد صلى الله عليه واله، امرأة صبرت على غيرة زوجها، وامرأة صبرت على سوء خلق زوجها، ومرأة وهبت صداقها لزوجها، يعطي الله كل واحدة منهنّ ثواب ألف شهيد، ويكتب لكلّ واحدة منهن عبادة سنة”26.

ضغطة القبر:
ورد في الرّوايات أنّ الميّت يتعرّض لضغطة القبر أو ضمّة الأرض، إلى الحدّ الذي تفري لحمه وتطحن دماغه وتذيب دهونه وتخلط أضلاعه، غير أنّ هذه الضَّغطة -حسب الرّوايات- درجاتٌ في الشدّة والألم، وهي متناسبةٌ تماماً مع عمل المؤمن ودينه في عالم الدُّنيا، وقلّما يسلم منها أحدٌ، إلا من استوفى شروط الإيمان، وبلغ درجات الكمال، سأله أبو بصير الإمام الصَّادق عليه السلام: أيفلت من ضغطة القبر أحد؟ فقال عليه السلام: “نعوذ بالله منها، ما أقلّ من يفلت من ضغظة القبر”27.

وقد تعرَّض لضغطة القبر الصَّحابي الجليل سعد بن معاذ (رضوان الله عليه)، حيث جاء في الروايات: “أنّه لمّا حمل على سريره شيَّعته الملائكة، وكان صلى الله عليه واله قد تبعه بلا حذاء ولا رداء، حتَّى لحده وسوَّى اللُبن عليه، فقالت أمّ سعد: يا سعد، هنيئاً لك الجنة، فقال صلى الله عليه واله: يا أمّ سعد، مه، لا تجزمي على ربّك؛ فإن سعد قد أصابته ضمّة، وحينما سُئل عن سبب ذلك قال صلى الله عليه واله: إنّه كان في خلقه مع أهله (زوجته) سوءٌ”28.

وقد حدّثنا أئمتنا عليهم السلام عن صعوبة ضغطة القبر، إذ ورد عن الإمام علي عليه السلام في نهج البلاغة أنّه قال: “وبادروا الموت في غمراته، وامهدوا له قبل حلوله، وأعدّوا له قبل نزوله، فإنّ الغاية القيامة، وكفى بذلك واعظاً لمن عقل، ومعتبراً لمن جهل، وقبل بلوغ الغاية ما تعلمون من ضيق الأرماس29، وشدّة الإبلاس، وهول المطّلع، وردعات الفزع، واختلاف الأضلاع30، واستكاك الأسماع، وظلمة اللحد31، وضيقة الوعد، وضمّ الضريح32، وردم الصفيح…3334.

مفهوم ضغطة القبر واختلاف درجاتها:

إنَّ ضغطة القبر تعني التَّضييق على الميِّت، وإنّ طبيعة الأعمال هي التي تحدّد شدّة هذا الشّعور بالضِّيق والأذى في عالم البرزخ، وهي تحدّد أيضاً أمَدَ استمرار هذه الضَّغطة التي قد تكون شعوراً وأذى روحياً مؤقّتاً يزول بعد حين، وقد يستمر أمداً طويلاً، وقد يبقى إلى البعث والنشور.

فليس من الصحيح ما يتصوّره بعض النَّاس من أن ضغطة القبر تحصل في بداية دخول الإنسان في عالم البرزخ وتنتهي؛ فالمستفاد من النصوص الشريفة أنّها قد تستمر، وقد تنقطع، ثمّ تعود نتيجة لأعمال النَّاس في الدُّنيا، أو نتيجة لعواملَ خارجيةٍ تطرأ لاحقاً، كاستغفار ابنٍ لأبيه، فترفع عنه ضغطة القبر، أو وقوع أحد الذين أضلّهم بغير علم في متاهات عقائدية أو سلوكية، فتنعكس على الإنسان وهو في عالم البرزخ.

ويُفهم من الرِّوايات أنّ هذه الضَّغطة يختلف حالها من شخصٍ إلى آخر، وذلك حسب درجة إيمانه وطبيعة عمله في نشأة عالم الدُّنيا، وأنّ هذه الضَّغطة لا تشمل كلّ الأموات، ومنها ما دلَّت عليه الروايات بأنّ القيام ببعض الأعمال يؤدّي إلى النجاة من ضغطة القبر، كما سيأتي.

عن أبي بصير عن أبي عبد الله عليه السلام قلت: جعلت فداك، فأين ضغطة القبر؟ فقال: “هيهات ما على المؤمنين منها شيء. والله، إنّ هذه الأرض لتفتخر على هذه، فتقول: وطأ ظهري مؤمن، ولم يطأ على ظهرك مؤمن، وتقول له الأرض: والله، كنت أحبّك وأنت تمشي على ظهري، فأمّا إذا وليتك فستعلم ماذا أصنع بك، فتفسح له مدّ بصره”35.

وتعبير الإمام الصادق عليه السلام في الرواية المتقدمة “ما أقلّ من يفلت منها” يدلّ على أنَّ بعض المؤمنين قد يفلت من ضغطة القبر، كما هو ثابت في حقّ السيّدة فاطمة بنت أسد، وذلك حسب روايات أهل البيت عليهم السلام حيث رُفعت عنها ضغطة القبر ببركة نزول النبي صلى الله عليه واله إلى قبرها الشَّريف.

وينبغي الإشارة إلى أن ّضغطة القبر على المؤمن – لو حصلت – فهي من باب تطهيره من الذّنوب المتبقية في عالم الدُّنيا، فيخرج نقياً إلى عالم القيامة، وروي عن الإمام الصادق عليه السلام عن آبائه عليهم السلام عن أمير المؤمنين علي عليه السلام قال: “قال رسول الله صلى الله عليه واله: ضغطة القبر للمؤمن كفّارة لما كان منه من تضييع النِّعم”36.

الأعمال المؤدية إلى ضغطة القبر:

ورد في الروايات أنّ هناك أعمالاً تؤدّي إلى ضغطة القبر أو إلى شدّتها، نذكر منها ما روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنّه قال: “عذاب القبر يكون من النميمة، والبول، وعزب37 الرجل عن أهله”38.

وعن الإمام الصادق عليه السلام عن رسول الله صلى الله عليه واله – عندما وصف سعد – قال: “إنّما كان من زعارة 39 في خلقه على أهله”40.

وعنه عليه السلام أيضاً أنّه قال: “قال رسول الله صلى الله عليه واله: ثلاثٌ من الذّنوب تعجّل عقوبتها ولا تؤخّر إلى الآخرة: عقوق الوالدين، والبغي على النَّاس، وكفر الإحسان”41.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: “أُقعِد رجلٌ من الأخيار في قبره، فقيل له إنّا جالدوك مئة جلْدة من عذاب الله، فقال: لا أطيقها، فلم يزالوا به حتَّى انتهوا إلى جلدة واحدة، فقالوا: ليس منها بُدّ، قال فبما تجلدونيها؟ قالوا: نجلدك لأنّك صلّيت يوماً بغير وضوء، ومررت على ضعيفٍ فلم تنصره، قال: فجلدوه جلدةً من عذاب الله عزّ و جلّ، فامتلأ قبره ناراً”42.

الأمور المنجية من ضغطة القبر:

ورد في الروايات الشريفة أنّ هناك أعمالاً وأموراً تنجي أو تخفّف من ضغطة القبر، نشير إلى بعضها:

1• زيارة الإمام الحسين عليه السلام: عن الإمام الباقر عليه السلام قال: “لو يعلم النَّاس ما في زيارة قبر الحسين عليه السلام من الفضل لماتوا شوقاً وتقطّعت أنفسهم عليه حسرات، (إلى أن قال) فإن مات سنته حضرته ملائكة الرّحمة، يحضرون غسله وأكفانه‏ والاستغفار له، ويشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له، ويفسح له في قبره مدّ بصر، ويؤمنه الله من ضغطة القبر، ومن منكر ونكير أن يروّعانه، ويفتح له باب إلى الجنّة…”43.

2• الموت ليلة يوم الجمعة: روي عن الإمام الصادق عليه السلام: “من مات ما بين زوال الشمس من يوم الخميس إلى زوال الشمس من يوم الجمعة من المؤمنين أعاذه الله من ضغطة القبر”44.

3• الحج أربع مرات: عن الإمام الصادق عليه السلام: “من حجّ أربع حجج لم تصبه ضغطة القبر أبداً”45.

4• قراءة القرآن: عن الإمام علي عليه السلام: “من قرأ سورة النساء في كل جمعة أؤمن من ضغطة القبر”46. وعن الإمام الصادق عليه السلام قال: “من قرأ سورة يس أؤمن من ضغطة القبر أيضاً”47.

5• صلاة الليل: عن الإمام الرضا عليه السلام: “عليكم بصلاة الليل؛ فما من عبدٍ يقوم آخر الليل فيصلّي ثماني ركعات، وركعتي الشفع، وركعة الوتر واستغفر الله في قنوته سبعين مرة، إلا أُجير من عذاب القبر ومن عذاب النّار، ومُدَّ له في عمره، ووُسِّع عليه في معيشته”48.

6• رشّ القبر بالماء أو وضع جريدة رطبة: قيل لأبي عبد الله عليه السلام: لأيّ شي‏ء توضع مع الميّت الجريدة؟ قال عليه السلام: “إنّه يتجافى عنه العذاب ما دامت رطبة”49.

وسُئِل الإمام الصادق عليه السلام أيضاً في علّة رشّ الماء على القبر، فقال عليه السلام: “يتجافى عنه العذاب ما دام النّدى في التّراب”50.

ولا بدّ من الإلفات هنا إلى أن ما ورد في الروايات لم يرد على نحو الحصر، أو على نحو العلّة التامة لكل عمل؛ بل لا بدّ من اجتماع أحد هذه الأعمال أو مجموعة منها مع التزام الإنسان بباقي التكاليف في الحياة الدنيا.

المساءلة في القبر:

إنّ المساءلة في القبر، وما يتبعها من الرَّحمة أو العذاب هي من الأمور القطعيَّة عند المسلمين عامَّة وعند أهل البيت عليهم السلام خاصَّة، حتَّى عدَّ الإمام الصادق عليه السلام منكرها خارج عن التشيُّع، الإمام الصادق عليه السلام: “من أنكر ثلاثة أشياء فليس من شيعتنا، المعراج، والمسألة في القبر، والشفاعة”51.

وحسب روايات أهل بيت العصمة والطهارة عليه السلام، يُسأل الإنسان عن أمرين أساسيين:

1• عقيدته: فيُسأل عن ربِّه ودينه ونبيه وإمامه، فقد رُوي عن الإمام الباقر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام قال: “إذا مات المؤمن شيّعه سبعون ألف ملك إلى قبره، فإذا أُدخل قبره أتاه مُنكَرٌ ونَكِيرٌ، فيقعدانه ويقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيقول: ربّي الله ومحمّد نبيّي والإسلام ديني، فيفسحان له في قبره مدّ بصره. ثمّ قال عليه السلام: إذا مات الكافر شيّعه سبعون ألفاً من الزّبانية إلى قبره، وإنّه ليناشد حامليه بصوتٍ يسمعه كلّ شي‏ء إلا الثّقلان،… فإذا أُدخل قبره وفارقه النَّاس أتاه منكر ونكير في أهول صورة؛ فيقيمانه، ثمّ يقولان له: من ربّك؟ وما دينك؟ ومن نبيّك؟ فيتلجلج لسانه، ولا يقدر على‏ الجواب، فيضربانه ضربةً من عذاب الله، يذعر لها كلّ شي‏ء”52.

2• أعماله: يُسأل الإنسان – عند دخوله في قبره، وحضور الملكين عنده – عن أعماله، فعن الإمام الصادق عليه السلام قال: “يُسأل الميّت في قبره عن خمس: عن صلاته وزكاته وحجّه وصيامه وولايته إيّانا أهل البيت، فتقول الولاية من جانب القبر للأربع: ما دخل فيكنّ من نقص فعليّ تمامه”53.
من يسأل العبد في قبره؟

دلَّت الروايات أنّ الملائكة تنزل على الموتى في قبوره؛ فتسألهم عن الأمور التي مرّ ذكرها، فإن أجاب بالحقّ سلَّموه إلى ملائكة النعيم، وإن ارتجّ “حسب تعبير الرِّوايات بمعنى استُغلق عليه الكلام- سلَّموه إلى ملائكة العذاب.

إن اسمي الملكين الذين ينزلان على الكافر هما ناكر ونكير، وعلى المؤمن مبشِّر وبشير، وقيل إنّما سُمّي ملكا الكافر ناكراً ونكيراً؛ لأنّه ينكر الحقّ وينكر ما يأتيانه به ويكرهه، وسُمّي ملكا المؤمن مبشّر وبشير؛ لأنّهما يبشّرانه من الله تعالى بالرضا والثواب المقيم. وإنّ هذين الاسمين ليسا بلقبٍ لهما، وإنّما عبارة عن فعلهما. ولا ينزل الملكان إلا على حيّ، ولا يسألان إلا من يفهم المسألة ويعرف معناها، وهذا دلالة على أنّ الله تعالى يحي العبد بعد موته للمسألة، ويديم حياته لنعيمٍ إن كان يستحقّه، أو لعذابٍ إن كان يستحقه 54.

المفاهيم الرئيسة

1. البرزخ هو عالم يفصل بين الدُّنيا والآخرة، وهناك ارتباط وثيق بين أعمال الإنسان في الدنيا والآثار البرزخية التي سوف تظهر في ذلك العالم.

2. الإطلالة الأولى على عالم البرزخ تبدأ منذ اللحظات الأولى لسكرات الموت، وهذه السكرات تتفاوت شدة وضعفا بحسب أعمال الإنسان الدنيوية.

3. وحشة القبر هي أيضاً من الأهوال التي يمرّ بها الإنسان عند انتقاله من هذه الدنيا، والوحشة سببها الأساسي ذنوب الإنسان التي اقترفها في الدنيا بسبب حبه لها.

4. ضغطة القبر أو التَّضييق على الميِّت هي من أهوال عالم البرزخ، وطبيعة أعمال الإنسان في الدنيا هي التي تحدّد شدّة هذا الشّعور بالضِّيق والأذى هناك أمَدَ هذه الضَّغطة.

5. المساءلة في القبر، وما يتبعها من الرَّحمة أو العذاب هي من الأمور القطعيَّة عند المسلمين، ولن يتمكّن من الإجابة على هذه الأسئلة إلا من تنوّر قبله بالإيمان وتنزّه عمله من دنس الآثام.


للمطالعة

رأس كل خطيئة

بُني! لا تستصغر الذنوب مهما بدت صغيرة لك. (انظر إلى من عصيت) وبهذه النظرة تبدو الذنوب كلها كبيرة ولا تغترّ بشيء‏ٍ ولا تنس حضور الله تبارك وتعالى في كل حال، إذ أن كل شي‏ء منه ولو انقطعت عنايته الرحمانية عن كائنات عالم الوجود لحظة واحدة فلا يبقى أثر حتى من الأنبياء والمرسلين والملائكة المقربين إذ أن جميع العالم تجلٍ لرحمانيته- جلّ وعلا- وإن رحمته الرحمانية- جلّ وعلا- مع قصر اللفظ والتعبير تُبقي نظام الوجود باستمرارية و(لا تكرار في تجليه جل وعلا) وقد يعبّر عنه ببسط الفيض وقبضه على سبيل الاستمرار. على كل حال فلا تنسه ولا تغترّ برحمته، كما عليك ألا تيأس وألا تغتر بشفاعة الشافعين عليهم السلام إذ أن لها موازين إلهية ونحن عنها غافلون وأن يكون أساس سلوكك وعملك التأمّل في أدعية المعصومين عليهم السلام وحرقتهم من خوف الحق وعذابه. إن أهواء النفس وشيطان النفس الأمارة تدفعنا إلى الغرور وتهلكنا بذلك.

بُني! لا تكن وراء تحصيل الدنيا وإن كان من حلالها إذ أن حبّ الدنيا حتى الحلال منها رأس كل خطيئة، إذ هو الحجاب الأكبر ويسوق الإنسان نحو عالم الحرام. إنك شاب وتستطيع بنعمة الشباب التي منحها الله لك أن توقف الخطوة الأولى من الانحراف، وألا تسمح لها بأن تؤدّي إلى الخطوات التالية إذ أن وراء كل خطوة خطوات أخرى، وإن كل ذنب- مهما صغر- يجر الإنسان نحو الذنوب الكبيرة حتى تبدو الذنوب الكبيرة ضئيلة في رأي الإنسان بل يتباهى بعض الناس بارتكاب الكبائر وقد يتحوّل المنكر في نظره معروفاً والمعروف منكراً لشدة الظلمات والحجب الدنيوية عنده 55.


1- مجمع البحرين، ج1، ص186.
2- الرحمن، 19- 20.
3- الفرقان، 53.
4- المؤمنون، 100.
5- نور الثقلين، ج3، ص553.
6 – من لا يحضره الفقيه، ج1، ص362.
7- ق، 19.
8- راجع: منازل الآخرة، ص107(بتصرف).
9 – الأربعون حديثاً، ص470.
10 – بحار الأنوار، ج6، ص157.
11- بحار الأنوار، ج6، ص153.
12 – بحار الأنوار، ج6، ص218.
13- مصباح المتهجد، ص562.
14- من لا يحضره الفقيه، ج1، ص170.
15 – الصحيفة السجادية، دعاؤه رقم 206، بحار الأنوار، ج91، ص123.
16 – الرأي: يعني الاعتقاد والإيمان.
17- الكافي، ج3، ص130.
18- فاطر، 35.
19 – بحار الأنوار، ج7، ص198.
20- بحار الأنوار، ج6، ص244، وهي ركعتان في الأولى بعد الحمد آية الكرسي إلى هم فيها خالدون وفي الثانية بعد الحمد سورة القدر 10 مرات، وبعد السلام يقول: اللهم صل على محمد وآل محمد وابعث ثوابها إلى قبر فلان ويسمي الميت، ولها كيفية أخرى تراجع في الرسائل العملية.
21 – بحار الأنوار، ج88، ص219.
21- بحار الأنوار، ج82، ص107.
23- وسائل الشيعة، ج6، ص247.
24- وسائل‏الشيعة، ج10، ص498.
25 – الكافي، ج3، ص120.
26 – وسائل الشيعة، ج 21، ص285.
27 – الكافي، ج3، ص236.
28- علل الشرائع، ج1، ص309.
29- الأرماس: جمع الرمس وهو القبر، والإبلاس: اليأس والانكسار والحزن.
30- اختلاف الأضلاع: كناية عن ضغطة القبر إذ يحصل بسببها تداخل الأضلاع واختلافها.
31 – اللحد: في الجانب.
32 – الضريح الشق في وسط القبر.
33- الصفيح: الحجر. والمراد بردمه هنا سد القبر به.
34- بحار الأنوار، ج60، ص244.
35 – الكافي، ج3، ص130.
36 – بحار الأنوار، ج6، ص221.
37 – عزب الرجل عن أهله معناه ابتعاده عن فراشه وطعامه، مع ظلمه لزوجته.
38- علل الشرائع، ج1، ص309.
39- الزعارة:-بتشديد الراء وتخفيفها-شراسة الخلق، والرجل شرس أي سيء الخلق.
40 – بحار الأنوار، ج6، ص261.
41 – وسائل الشيعة،ج16، ص312.
42 – بحار الأنوار،ج6، ص221.
43- مستدرك‏الوسائل، ج10، ص 309، كامل الزيارات، ص271.
44- الأمالي، ص355.
45- الخصال، ص216.
46- ثواب الأعمال، ص105.
47 – بحار الأنوار، ج84، ص3.
48 – بحار الأنوار، ج87، ص161.
49 – الكافي، ج3، ص153.
50 – الكافي، ج3، ص200.
51 – مستدرك الوسائل، ج6، ص223.
52 – بحار الأنوار، ج6، ص222.
53 – الكافي، ج3، ص241.
54 – تصحيح اعتقادات الإمامية، ص98- 99.
55 – صحيفة الإمام الخميني،ج ‏18، ص 412.

المصدر : شبكة المعارف الاسلامية ,

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى