مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (النساء 3)

قال تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا} [النساء : 3] .

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير  هذه الآية (1) :  

{وإن خفتم ألا تقسطوا} :  أي لا تنصفوا ولا تعدلوا يا معاشر أولياء اليتامى . ﴿في اليتامى﴾ : وذكرنا معناه والاختلاف فيه في النزول ﴿فانكحوا ما طاب لكم﴾ أي ما حل لكم ولم يقل من طاب لكم لأن معناه فانكحوا الطيب . ﴿من النساء﴾ : أي الحلال منهن ، أي من اللاتي يحل نكاحهن دون المحرمات اللاتي ذكرن في قوله : {حرمت عليكم أمهاتكم} الآية ويكون تقديره على القول الأول إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح اليتامى إن نكحتموهن ، فانكحوا البوالغ من النساء وذلك أنه إن وقع حيف في حق البوالغ ، أمكن طلب المخلص منهن بتطييب نفوسهن والتماس تحليلهن لأنهن من أهل التحليل وإسقاط الحقوق بخلاف اليتامى فإنه إن وقع حيف في حقهن لم يمكن المخلص منه لأنهن لسن من أهل التحليل ولا من أهل إسقاط الحقوق .

وقوله ﴿مثنى وثلاث ورباع﴾  : معناها اثنتين اثنتين ، وثلاثا ثلاثا ، وأربعا أربعا ، فلا يقال أن هذا يؤدي إلى جواز نكاح التسع ، فإن اثنتين وثلاثة وأربعة ، تسعة لما ذكرناه فإن من قال دخل القوم البلد مثنى ، وثلاث ، ورباع لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول ، ولأن لهذا العدد لفظا موضوعا ، وهو تسع ، فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ، جل كلامه عن ذلك وتقدس . وقال الصادق (عليه السلام) : ” لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر”  .

 ﴿فإن خفتم ألا تعدلوا﴾ بين الأربع ، أو الثلاث ، في القسم ، أو النفقة ، وسائر وجوه التسوية . ﴿فواحدة﴾ : أي فتزوجوا واحدة . ﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾:   أي واقتصروا على الإماء حتى لا تحتاجوا إلى القسم بينهن ، لأنهن لا حق لهن في القسم . ﴿ذلك﴾ : إشارة إلى العقد على الواحدة مع الخوف من الجور ، فيما زاد عليها . ﴿أدنى ألا تعولوا﴾ : أي أقرب أن لا تميلوا وتجوروا عن ابن عباس ، والحسن ، وقتادة . ومن قال معناه : أدنى أن لا تكثر عيالكم ، فإنه مع ضعفه في اللغة ، في الآية ما يبطله ، وهو قوله ﴿أو ما ملكت أيمانكم﴾ ومعلوم أن ما يحتاج إليه من النفقة عند كثرة الحرائر من النساء ، مثل ما يحتاج إليه عند كثرة الإماء .

وقيل : كان الرجل قبل نزول هذه الآية يتزوج بما شاء من النساء .

_________________________

1. تفسير مجمع البيان ، ج3 ، ص 15.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنيه في تفسير  هذه الآية (1) :

{وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وثُلاثَ ورُباع} . إن مبدأ تعدد الزوجات إلى أربع مبدأ مقرر في الشريعة بحكم الكتاب والسنة ، والإجماع قولا وعملا ، بل هذا المبدأ معلوم بضرورة الدين ، ولكنه غير مباح إباحة مطلقة ، بل مقيد بشرط يبرره بضرورة الدين أيضا .

وهنا سؤال يفرض نفسه ، وهو إن المعنى الظاهر من هذه الآية إن من خاف منكم إن لا يعدل في اليتامى فليتزوج اثنتين وثلاثا وأربعا ، ومتى فعل ذلك لا يبقى ظلم ولا جور . . وليس من شك إن هذا المعنى لو كان مرادا لكان أشبه بالهذيان ، إذ لا ربط بين فعل الشرط وجوابه . . حاشا القرآن الكريم الذي فصلت آياته من لدن عليم حكيم ؟ ! .

والجواب عن هذا السؤال واضح وبسيط ، ولكن اختلاف أجوبة المفسرين وتضاربها ترك القارئ في حيرة لا يهتدي إلى شيء . . ويتلخص الجواب بأن الكلام منذ بدايته موجه إلى أوصياء اليتامى ، وهم المقصودون بالخطاب في قوله تعالى : {وآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ} . {ولا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ} . {ولا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ} . وبعد هذه الخطابات المتعلقة بأموال اليتامى خاطب اللَّه سبحانه الأوصياء بخطاب آخر يتعلق بنكاح اليتيمات ، وهو {وإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى} الخ أي في نكاح اليتامى ، فحذف لفظ نكاح لدلالة فانكحوا عليه ، من باب حذف الأول لدلالة الثاني ، على حد تعبير النحاة ، ويكون تقدير الكلام هكذا :

هذا فيما يعود إلى أموال اليتامى ، أما فيما يعود إلى نكاح الإناث منهم فعليكم أيها الأوصياء إن تزوجتم بهن إن لا تقصروا في حقوقهن ، وان خفتم التقصير وعدم العدل في معاملتهن بالنظر إلى أنهن وحيدات لا أحد يدافع عنهن فاتركوهن ، وتزوجوا من غيرهن فقد جعل اللَّه لكم مندوحة عن اليتيمات بما أباحه لكم من التزويج بغيرهن واحدة أو اثنتين أو ثلاثا أو أربعا . . ولكن أيضا على أساس العدل ، فإن خفتم أن لا تعدلوا مع التعدد فاقتصروا على الواحدة ، وبهذا يتم الربط بين فعل الشرط وجوابه ، تماما كما تقول لجليسك : إذا كنت لا تأكل من هذا الصنف لأنك تكثر منه ، وتخاف من داء التخمة فكل من الأصناف الأخر ، ولكن على أساس عدم الإكثار منها ، والا وقعت في المحذور نفسه .

وكل كلمة قدرناها لهذا المعنى الذي ذكرناه فإن السياق يدل عليها ، والمألوف من طريقة القرآن انه يوجز الكلام إلى أقصى حد ، ويحذف منه كل ما يمكن أن يستحضره السامع والقارئ من الإشارة والإيماء ، وان دلت حيرة المفسرين على شيء فإنما تدل على إن هذه الآية هي أبلغ آية في الإيجاز .

{فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} . المراد بالعدل التسوية في الملبس والمسكن ونحو ذلك مما يدخل تحت طاقة الإنسان ، أما ما لا يدخل في وسعه من ميل القلب إلى واحدة دون أخرى فلا يكلف الإنسان بالعدل فيه ، وبهذا نجد الفرق بين قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً} وبين قوله : {ولَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ ولَوْ حَرَصْتُمْ – 128 النساء } . فالمراد بالعدل الأول التسوية في الإنفاق ، وبالعدل الثاني ميل القلب .

وتسأل : إن اللَّه سبحانه قد أوجب الاقتصار على الواحدة مع خوف الرجل من الجور إذا عدد . . وبديهة إن الخوف حالة نفسية ذاتية تخطئ أكثر مما تصيب ، وقد شاهدنا الكثير من الرجال تطغى عليهم شهواتهم ورغبتهم في تعدد الزوجات ، فتعميهم عن تقدير ظروفهم ، وتدبر قدرتهم ، وعلى هذا لا يكون للشرط مقياس صحيح ، وضابط مطرد ؟ .

الجواب : إن هذا الإشكال لا مفر منه ، إذا أردنا من الخوف الحالة النفسية ، أما إذا أردنا منه ظروف الرجل المادية والصحية ، وانها تتحمل أكثر من زوجة واحدة ، أما إذا أردنا هذا فالسؤال غير وارد من الأساس ، لأن الأشياء المحسوسة يمكن ضبطها بسهولة . . ولا شيء في الشريعة الإسلامية يمنع أن يعهد بتقدير ظروف الرجل الذي يريد التعدد إلى هيئة خاصة ، كما هي الحال الآن في بعض الأقطار الإسلامية .

{ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا} . أي إن الاقتصار على الواحدة أقرب إلى العدل ، وأبعد عن الجور والظلم ، وفي هذا إيماء إلى إن على الرجل أن يكتفي بواحدة ، لأن في التعدد مفاسد . . وجاء في تفسير البيضاوي إن البعض فسر لا {تَعُولُوا} بكثرة العيال من عال الرجل إذا كثر عياله ، وعلى هذا يكون معنى الآية إن الأفضل أن لا يعدد الرجل زوجاته ، كيلا يتحمل من أجلهن وأجل أولادهن المشاق والمتاعب ، وقال صاحب المنار : « هذا هو الأرجح » . . وقال الإمام علي (عليه السلام) : قلة العيال إحدى اليسارين .

_____________________

1. تفسير الكاشف ، ج2 ، ص248-250 .

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير  هذه الآية (1) :

قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ } قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب ـ وكانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب والمقاتل والغيلة والغارة وكان يكثر فيهم حوادث القتل ـ كان يكثر فيهم الأيتام ، وكانت الصناديد والأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء وأموالهن فيتزوجون بهن ويأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن وربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به ولا راغب فيهن فيتزوج بهن وينفق عليهن ، وقد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث والظلم الفاحش ، وأكد النهي عن ظلم اليتامى وأكل أموالهم كقوله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } : [ النساء : 10 ] ، وقوله تعالى : { وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً } الآية ، : [ النساء : 2 ] فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم ـ كما قيل ـ وخافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم والتفريط في حقهم ، ومن أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام والشراب وكان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتى يبقى ويفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك وسألوا رسول الله صلى الله عليه وآله عن ذلك وشكوا إليه فنزل :{ وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَاللهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شاءَ اللهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } : [ البقرة : 220 ] ، فأجاز لهم أن يأووهم ويمسكوهم إصلاحا لشأنهم وأن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم وفرج همهم.

إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا } « إلخ » وهو واقع عقيب قوله : { وَآتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ } الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة والمعنى ـ والله أعلم ـ : اتقوا أمر اليتامى ، ولا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم ، ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم ولم تطب نفوسكم أن تنكحوهن وتتزوجوا بهن فدعوهن وانكحوا نساء غيرهن ما طاب لكم مثنى وثلاث ورباع.

فالشرطية أعني قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ } ، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن وانكحوا نساء غيرهن فقوله : فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي ، وقوله : { ما طابَ لَكُمْ } ، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن ، وقد قيل : { ما طابَ لَكُمْ } ولم يقل : من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله : { مَثْنى وَثُلاثَ } إلخ ووضع قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا } موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله : { ما طابَ لَكُمْ } ، هذا.

وقد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير وهي كثيرة ، منها : أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع والخمس وأكثر ويقول : ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان ، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.

ومنها : أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى ولا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا ولا يعدلون بينهن ، فقال تعالى : إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.

ومنها : أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى وأكل أموالهم فقال سبحانه : إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا { فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ }.

ومنها : أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم { فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ } مما أحل لكم من يتامى قرباتكم { مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ }.

ومنها : أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء وأن لا تعدلوا بينهن ولا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور ، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.

قوله تعالى : { مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ } بناء مفعل وفعال في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى وثلاث ورباع اثنتين اثنتين وثلاثا ثلاثا وأربعا أربعا ، ولما كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس وقد جيء بواو التفصيل بين { مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ } الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى وثلاث ورباع.

وبذلك وبقرينة قوله بعده : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ } وكذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا ، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا وهكذا ، وكذا في الثلاث والأربع ، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية.

على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.

وكذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين والثلاث والأربع تسع ، وقد ذكر في المجمع : أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال : دخل القوم البلد مثنى وثلاث ورباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة ، ولأن لهذا العدد لفظا موضوعا وهو تسع فالعدول عنه إلى مثنى وثلاث ورباع نوع من العي ـ جل كلامه عن ذلك وتقدس ـ.

قوله تعالى : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً } أي فانكحوا واحدة لا أزيد ، وقد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور ـ ولتسويل النفس فيها أثر بين ـ لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.

قوله تعالى : { أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ } وهي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة ، وإن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء.

ومن هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم والتعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين وليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل ، ولهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن وإتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن سيتعرض لها في ما سيجيء من قوله : { وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ } الآية : [ النساء : 25 ].

قوله تعالى : { ذلِكَ أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل ولا تتعدوا عليهن في حقوقهن ، وربما قيل : إن العول بمعنى الثقل وهو بعيد لفظا ومعنى.

وفي ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط ونفي العول والإجحاف في الحقوق .

_________________________

1. تفسير الميزان ، ج4 ، ص 142-145 .

تفسير الأمثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير  هذه الآية (1) :

يتّضح تفسير هذه الآية والمراد منها ، كما يتّضح الجواب أيضاً على السؤال المطروح هنا ، وهو : لماذا تبتدئ الآية بذكر اليتامى ، وتنتهي بمسألة الزواج ، ويرتفع ما قد يتوهم من المنافاة بين تلك البداية ، وهذه النهاية ، فالبداية والنهاية كلتاهما تتعلقان بمسألة الزواج ، غاية ما في الباب أنّ الآية تقول : إِذا لم يمكنكم الزواج باليتيمات ومعاشرتهنّ على أساس من العدل والقسط فالأفضل أن تتركوا الزواج بهنّ ، وتتزوجوا بغيرهنّ من النساء تجنباً لظلم اليتيمات والإِجحاف بحقوقهنّ ، والجور عليهنّ .

فالذي يستفاد من ذات الآية ـ وإِن اختلفت وجهات نظر المفسرين وكثرت أقوالهم وتعددت في المراد منها ـ هو ما ذكرناه في سبب النزول ، وهو أن الخطاب موجه إِلى أولياء اليتيمات اللاتي جاء الحثّ في الآية السابقة على حفظ أموالهنّ ضمن اليتامى .

فهذه الآية تعليم آخر ووصية أُخرى بهم ، ولكنّها هذه المرّة تتعلق بمسألة الزواج باليتيمات ، وإن على أوليائهنّ أن يعاملوهنّ في مسألة الزواج على أساس من العدل والقسط كما يعاملونهنّ في مسألة المال، فعليهم أن يراعوا في أمر الزواج مصلحة اليتيمة ، وإِلاّ فمن الأحسن أن يدعوا الزواج بهنّ، ويختاروا الأزواج من غيرهنّ من النساء.

هذا وممّا يؤيد ويوضح هذا التّفسير ما جاء في الآية (127) من نفس هذه السّورة حيث حثّ سبحانه على التزام العدل في الزواج باليتيمات ، وسيأتي تفصيل ذلك في محله .

كما أن ثمّة أحاديث نقلت في الكتب المختلفة تشهد بهذا الإِتجاه ، وتؤيد هذا التّفسير.

وما نقل عن الإِمام علي (عليه السلام) من الأخبار بسقوط أو حذف شيء كثير من القرآن بين مطلع هذه الآية (2) ، ونهايتها غير معتبر من حيث السند أصلا ، فهذه الأحاديث وما يشابهها من الأحاديث التي تدل على حذف شيء من الآيات القرآنية وإِسقاطها أو وقوع التحريف فيه إمّا أنّها من موضوعات أعداء الإِسلام وخصومه والمنافقين بغية الحط من اعتبار القرآن وأهميته ومكانته ، وإمّا لأنّها ناشئة من عجز البعض عن التوفيق بين صدر الآية وذيلها وفهم الإِرتباط الطبيعي بينهما ، ولهذا توهّموا بأنّ هناك حذفاً وإسقاطاً وقد تطور هذا الوهم حتى اتّخذ صورة الحديث المروي والخبر المنقول ، في حين يتّضح الإِرتباط الوثيق بين هذه الجمل والعبارات بالتأمل والتدبر والإِمعان .

«مثنى» و«ثلاث» و«رباع» :

وتعني «مثنى» في اللّغة اثنتين اثنتين ، و«ثلاث» ثلاثاً ثلاثاً ، و«رباع» أربعاً أربعاً ، وحيث أنّ الخطاب في هذه الآية موجّه إِلى المسلمين كافة ، كان المعنى : إن عليكم أن تنصرفوا عن الزواج باليتيمات تجنباً من الجور عليهنّ ، وأن تتزوجوا بالنساء اللاتي لا تسمح مكانتهنّ الإِجتماعية والعائلية بأن تجوروا عليهنّ ، وتظلموهنّ ، ويجوز لكم أن تتزوجوا منهنّ باثنتين أو ثلاث أو أربع ، غاية ما في الأمر حيث أنّ الخطاب هنا موجّه إِلى عامّة المسلمين ، وكافتهم عبر بالمثنى ، والثلاث ، والرّباع إذ لا شك في أن تعدد الزوجات ـ بالشروط الخاصّة ـ لا يشمل أكثر من أربع نساء .

ولابدّ من التنبيه إِلى أن «الواو» هنا أتت بمعنى «أو» ، فليس معنى هذه الجملة هو أنّه يجوز لكم أن تتزوجوا باثنتين وثلاث وأربع ليكون المجموع تسع زوجات ، لأن المراد لو كان هذا لوجب أن يذكر ذلك بصراحة فيقول : وانكحوا تسعاً لا أن يذكره بهذه الصورة المتقطعة المبهمة .

هذا مضافاً إِلى أنّ حرمة الزّواج بأكثر من أربع نسوة من ضروريات الفقه الإِسلامي ، وأحكامه القطعية المسلمة .

وعلى كلّ حال فإنّ الآية الحاضرة دليل صريح على جواز تعدد الزوجات ، طبعاً بشروطها التي سنذكرها قريباً .

ثمّ أنّه سبحانه عقب على ذلك بقوله : (وإِنّ خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة) أي التزوج بأكثر من زوجة إِنّما يجوز إِذا أمكن مراعاة العدالة الكاملة بينهنّ، أمّا إِذا خفتم أن لا تعدلوا بينهن، فاكتفوا بالزوجة الواحدة لكي لا تجوروا على أحد.

ثمّ يقول : (أو ما ملكت أيمانكم) أي يجوز أن تقتصروا على الإِماء اللاتي تملكونهنّ بدل الزوجة الثانية لأنهنّ أخف شروطاً (وإن كن يجب أن يحظين ويتمتعن بما لهنّ من الحقوق أيضاً) .

ويقول : (ذلك أدنى ألاّ تعولوا) أي أن هذا العمل (وهو الإِقتصار على زوجة واحدة أو الإِقتصار على الإِماء وعدم التزوج بزوجة حرّة ثانية) أحرى بأن يمنع من الظلم والجور، ويحفظكم من العدوان على الآخرين .

__________________

1. تفسير الأمثل ، ج3 ، ص 17-19 .

2. بحار الأنوار ، ج89 ، ص 47 ؛ واحتجاج الطبرسي ، ج1 ، ص 254 .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى