مقالات

شبهة فداء الأسرى في بدر الكبرى

 (أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ)
وكيف يُدرِكُ في الدنيا حقيقته ، قومٌ نيامٌ تسلُّوا عَنهُ بالحُلُم .
………………………..

🔹شبهة فداء الأسرى في بدر الكبرى :
▪عدنان الجنيد

قال المفسرون(1): بأن هذه الآية: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُر ِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِ يدُ الآخِرَةَ وَالله عَزِ يزٌ حَكِيمٌ )[الأنفال :67].
نزلت في التنديد برسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – وأصحابه، مستدلين بروايات موضوعة وحكايات مصنوعة ، منها ما روي عن عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنَّه قال:” لمّا كان يوم بدر والتقوا فهزم الله الكفار المشركين وقتل منهم سبعون رجلاً، وأُسر سبعون رجلاً، استشار رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – أبا بكر وعمر وعلياً (2)، فأبدى أبو بكر رأيه، وذلك بأخذ الفداء، ثم قال عمر : فقال رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم -: «ما ترى يا ابن الخطاب؟»  قال: قلتُ: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أن تمكنني من فلان قريب لعمر فأضرب عنقه، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من فلان أي العباس فيضرب عنقه(3) ـ إلى أن قال ـ فهوى رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – ما قال أبو بكر، ولم يهو ما قلت، فأخذ منهم الفداء، فلما كان من الغد قال عمر: غدوت إلى النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وإذا هما يبكيان فقلتُ: يا رسول الله أخبرني ماذا يبكيك أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت، فقال النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – : «أبكي للذي عرض على أصحابك من الفداء، لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه لشجرة قريبة وأنـزل الله ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ …)الآية»، وفي رواية: «وإن كان ليمسنا في خلافك يا ابن الخطاب عذاب عظيم»(4).

أفيعقل أنَّ رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – قال: «لو نـزل العذاب لم يفلت منه إلاَّ ابن الخطاب» فهل كان رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – يجهل نفسه بأنه نبي مرسل ؟ وهل كان عمر – رضي الله عنه – أعرف من النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – بالأمور؟ ألا نـزهوا نبيكم عن هذه الروايات التي تتنافى مع عصمته ومكانته عند الله تعالى .
ومن زعم أن النبي – صلى الله عليه وآله وسلم -، قد اتخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء قبل أن يثخن في الأرض فقد كذب وافترى، وبتفسير الآية ما عرف وما درى، فإنه – صلى الله عليه وآله وسلم – ما اتخذ الأسرى وأخذ منهم الفداء إلاَّ بعد أن أثخن في الأرض وقتل صناديد قريش وطواغيتها كأبي جهل وأخيه، وعتبة بن ربيعة وأخيه، والوليد بن عتبة، وحنظلة بن أبي سفيان، إلى سبعين من رؤوس الكفر وزعماء الضلال. كما هو معلوم بالضرورة الأولية، فكيف يمكن بعد هذا أن يتناوله صلى الله عليه وآله وسلم اللوم المذكور في الآية  (تعالى الله عمَّا يقول الظالمون علواً كبيراً) !!.
والصواب أنَّ الآية إنمانـزلت في التنديد بالذين كانوا يودون العير لا النفير، وهم بعض الصحابة بدليل قوله تعالى : (وَإِذْ يَعِدُكُمْ الله إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ الله أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ )[الأنفال ].
وكان النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – قد استشار أصحابه قائلاً لهم: «إن القوم قد خرجوا على كل صعب وذلول ـ أي مسرعين ـ فما تقولون العير أحب إليكم من النفير؟ قالوا: نعم» ـ أي قالت طائفة منهم العير أحب إلينا من لقاء العدو -، وفي رواية: قالوا : «هلاَّ ذكرت لنا القتال حتى نتأهب له، إنَّا خرجنا للعير»، وفي رواية:  «يا رسول الله عليك بالعير، ودع العدو، فتغير وجه رسول الله – صلى الله عليه وآله وسلم – »، قال أبو أيوب: «في ذلك أنـزل الله تعالى: ( كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ، يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ )[الأنفال : 5-6]»(5).

  • تفسير الآية الكريمة :
    وحيث أراد الله سبحانه وتعالى أن يقنعهم بمعذرة النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – في إصراره على القتال وعدم مبالاته بالعير وأصحابه قال عز من قائل: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ …) أي من الأنبياء المرسلين قبل نبيكم محمد – صلى الله عليه وآله وسلم -، ولاحظ هنا أنَّ اللام منكرة وليست معرفة ( أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ )، أي فنبيكم لا يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض على سنن غيره من الأنبياء – عليهم السلام -، ولذلك لم يبال – صلى الله عليه وآله وسلم – إذ فاته أسر أبي سفيان وأصحابه حين هربوا بعيرهم إلى مكة، لكنكم أنتم (تُرِيدُونَ ) إذ تودون أخذ العير وأسر أصحابة (عَرَضَ الدُّنْيَا وَالله يُرِيدُ الآخِرَةَ )، باستئصال ذات الشوكة من أعدائه (وَالله عَزِيزٌ حَكِيمٌ )، والعزة والحكمة تقتضيان يومئذٍ اجتثاث عز العدو وإطفاء جمرته، ثم قال تنديداً بهم وتهديداً لهم: ( لَوْلاَكِتَابٌ مِنْ الله سَبَقَ )، أي في علمه الأزلي بأن يمنعكم من أخذ العير وأسر أصحابه لأسرتم القوم وأخذتم عيرهم، ولو فعلتم ذلك ( لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ ) قبل أن تثخنوا في الأرض (عَذَابٌ عَظِيمٌ ) ثم فيها إشارة إلى أن بعض المؤمنين كانوا يؤثرون الأسر على القتل طمعاً في الفداء فنهاهم الله عن ذلك ليكون قتالهم لإعلاء كلمة الله فقط، هذا معنى الآية الكريمة، ويجوز أن يكون المعنى: (لَوْلاَكِتَابٌ مِنْ الله سَبَقَ ) في علمه الأزلي بأن لا يعذبكم والنبي فيكم كما صرحت به محكمات الفرقان: (لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ )، أي به من الرأي والعزم في شأن العير وأصحابه (عَذَابٌ عَظِيمٌ )
    لكن الجاهلين بعصمته – صلى الله عليه وآله وسلم – قالوا إنما كان الحق في هذه الواقعة مع عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – ، معتمدين في ذلك على أحاديث اختلقها بعض المنافقين من أعداء الله، ( مَا أَنـزلَ الله بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ )[الأنفال : يوسف : 40] ، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ )[الأنعام : 91]، (6).

قلتُ: لوكان رسول الله – أخطأ في موقفه مع أسرى بدر لأمره الله تعالى برد الفداء ليس هذا فحسب بل ولأمره – ايضا – بأن يستغفر الله تعالى من الخطأ الذي وقع فيه ..
لكن وجدنا الحق أقرّه على فعله وصوّب رأيه وشرع له ذلك فقال :(فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّبًا..)
فلوكان فعله – صلى الله عليه وآله وسلم – خطأ كيف يقرّه الله عليه ويجعله شرعا باقيا ؟!
ثم كيف ينسب إليه الخطأ في أسرى بدر، مع أنه – صلى الله عليه وآله وسلم – قد أُمر أن يخيِّر أصحابه بذلك ، ولهذا عمل هو – صلى الله عليه وآله وسلم – بمقتضى ذلك .
روى النسائي والترمذي والحاكم بإسناد صحيح عن علي – عليه السلام – قال: «جاء جبريل عليه السلام إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم بدر فقال له: خيِّر أصحابك في الأسارى إن شاءوا القتل، وإن شاءوا الفداء، على أن يقتل منهم في العام المقبل مثلهم، فقال: نختار الفداء ويقتل منَّا»، وفي رواية قالوا: «بل نفاديهم فنقوى بهم عليهم ويدخل قابلا منَّا الجنَّة سبعون ففاداهم» (7).
ومن الأدلة – ايضا – على صحة فعله وصواب رأيه – صلى الله عليه وآله وسلم – في موقفه مع أسرى بدر هو ماقاله القاضي عياض في «شفائه»(8) ما نصه: ” وقال القاضي بكر بن العلاء أخبر الله تعالى نبيَّهُ في هذه الآية أن تأويله وافق ما كتبهُ له من إحلال الغنائم والفداء، وقد كان قبل هذا فادوا في سريَّة عبدالله بن جحش التي قتل فيها ابن الحضرمي، والحكم بن كيسان وصاحبه فما عتب الله ذلك عليهم وذلك قبل بدر بأكثر من عام”.

قلتُ: والعجب من بعض الفقهاء قولهم أنَّ النبي – صلى الله عليه وآله وسلم – كان مجتهداً في أسرى بدر فأخطأ في رأيه، فليت شعري كيف يقال إنه – صلى الله عليه وآله وسلم – مجتهد والمجتهد يخطئ ويصيب، وقوله – صلى الله عليه وآله وسلم – هو الحجة البالغة، والدليل القاطع الذي يعتمده جميع المجتهدين والمحققين.
أمّا رأي المجتهد فيحتمل في حقه الخطأ والصواب على السواء، والأدلة كثيرة وغزيرة، وما أوردناه غيضاً من فيض.
….. …………………
الهوامش.

(1)انظر أي تفسير شئت سواء الكشاف [237/2] أو ابن كثير [311/2] أو غيرهما لاسيما الذين اعتمدوا في تفسيرهم للآية على أسباب النزول
(2)اطلعت على مراجع السيرة النبوية، فلم أجد أنهم ذكروا رأي سيدنا علي عليه السلام.
(3) قلت : كيف يقول ذلك عمر ، مع أنَّه قد سمع رسول الله يقول لهم قبل أن تنشب المعركة: «إنكم قد عرفتم أنَّ رجالاً من بني هاشم قد أُخرجوا إكراهاً لا حاجة لهم بقتالنا، فمن لقي منكم أحداً من بني هاشم فلا يقتله». وذكر أبا البحتري ونص على العباس بن عبدالمطلب، فقال أبو حذيفة : أيقتل آباؤنا وابناؤنا وإخواننا وعشيرتنا ويترك العباس لئن لقيته ـ يعني العباس ـ لألجمنَّه السيف.  فبلغت أي تلك الكلمة رسول الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : «يا أبا حفص أيضرب وجه عم رسول الله بالسيف»، فقال عمر : دعني أضرب عنقه يعني أبا حذيفة بالسيف، فوالله لقد نافق … الحديث. [ انظر: السيرة الحلبية ج2/168]. قلتُ : وهذا يدلك على أن تلك الرواية موضوعة على عمر بن الخطاب أراد العُمَرية أن يمدحوه فجرحوه.
(4) انظر: أسباب النـزول للواحدي ص162، والسيرة الحلبية ج2/ص190، وكتب السير الأخرى.
(5) انظر ( السيرة النبوية والآثار المحمدية ) لابن دحلان بهامش السيرة الحلبية [ج1/ص371]، وانظر (السيرة الحلبية )  [ج2/ص149].
(6) انظر: ( الفصول المهمة ) ل شرف الدين الموسوي ص112ـ ط/1397هـ {بتصرف}.
(7) السيرة النبوية لابن دحلان ج1/409، على هامش السيرة الحلبية.
(8) الشفاء للقاضي عياض [ ج2/ص160ـ161]، دار الكتب العلمية / بيروت ـ لبنان.

  • من ارشيف 1999م

المركزالاعلامي لملتقى_التصوف

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى