مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 31-32)

قال تعالى : {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

بين سبحانه أن الإيمان به لا يجدي، إلا إذا قارنه الإيمان برسوله ” صلى الله عليه وآله وسلم ” فقال: { قُلْ } يا محمد { إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ } كما تزعمون {فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وقيل: معناه إن كنتم تحبون دين الله، فاتبعوا ديني يزدد لكم حبا، عن ابن عباس. وقيل: إن كنتم صادقين في دعوة محبة الله تعالى، فاتبعوني فإنكم إن فعلتم ذلك أحبكم الله، ويغفر لكم { وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } أي: كثير المغفرة والرحمة { قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ } أي: قل يا محمد إن كنتم تحبون الله كما تدعون، فأظهروا دلالة صدقكم بطاعة الله، وطاعة رسوله، فذلك إمارة صدق الدعوة { فَإِنْ تَوَلَّوْا } أي: فإن أعرضوا عن طاعة الله وطاعة رسوله { فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ } معناه: إنه يبغضهم، ولا يريد ثوابهم. فدل بالنفي على الإثبات، وذلك أبلغ، لأنه لو قال يبغضهم لجاز أن يتوهم أنه يبغضهم من وجه، ويحبهم من وجه آخر، كما يجوز أن يعلم الشيء من وجه، ويجهل من وجه. وفي هذا دلالة على بطلان مذهب المجبرة، لأنه إذا لم يحب الكافرين من أجل كفرهم، ولم يرد ثوابهم لذلك، فلا يريد إذا كفرهم، لأنه لو أراده لم يكن نفي محبته لهم لكفرهم.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص277.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هاتين الآيتين (1) :

محبة الله :

 { قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهً فَاتَّبِعُونِي } . من أحب اللَّه يلزمه حتما أن يحب رسول اللَّه وأهل بيته لحب الرسول لهم ، ومن أحب الرسول يلزمه حتما أن يحب اللَّه ، والتفكيك محال ، قال تعالى : {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهً – النساء 80} ، لأن الرسول هو لسان اللَّه وبيانه . . والعكس صحيح ، أي من نصب العداء للرسول وآله فقد نصب العداء للَّه من حيث يريد أو لا يريد .

فأهل الأديان الأخر الذين يدعون الايمان باللَّه ، ثم ينصبون العداء لمحمد ( صلى الله عليه واله ) هم من أعدى أعداء اللَّه .

وان قال قائل : ان جهلهم بنبوة محمد عذر مبرر . قلنا في جوابه لا عذر إطلاقا لمن اتبع أهواءه ، وقلَّد آباءه الا بعد التثبت والنظر إلى جميع الدلائل على نبوة محمد ، وما نظر عارف إلى هذه الدلائل نظرة عدل وإنصاف إلا آمن وأذعن .

ولا معنى لحب الصغير للكبير ، والعبد للسيد إلا الطاعة والمتابعة . . وكل من أحب ما أبغض اللَّه ورسوله ، وأبغض ما أحب اللَّه ورسوله فهو عدو للَّه ورسوله ، وان خيل إليه انه من المحبين . لأن ما يظن انه حب دون أن يبرز له أثر ملموس فهو مجرد وهم وخيال .

قُلْ أَطِيعُوا اللَّهً والرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ } ظاهر هذه الآية ان حقيقة الدين هي طاعة اللَّه والرسول ، وان ترك هذه الطاعة يستلزم الكفر ، بل هو الكفر بالذات ، لأنه قال تعالى : { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهً لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ } ولم يقل : ان اللَّه يمقت العاصين أو يعاقبهم ، أي انه اعتبر سبحانه العصيان كفرا ، لا سببا للمقت والعقاب فقط .

وهذا شيء خطير ومخيف جدا ، حيث لا يبقى واحد على الدين والإسلام إلا النادر النادر . . اللهم إلا ان يراد بالكفر هنا العصيان ، مثل قوله تعالى :

{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} [آل عمران : 97].

وعلى أية حال ، فنحن مأمورون دينا وشرعا أن نعامل من نطق بالشهادتين معاملة المسلم من حيث الإرث والزواج والطهارة ، وصيانة المال والدم ، وما عدا ذلك متروك إلى اللَّه سبحانه ، ولسنا مسؤولين عنه .

___________________
1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص45-46.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هاتين الآيتين(1) :

قوله تعالى : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله}، قد تقدم كلام في معنى الحب، و أنه يتعلق بحقيقة معناه بالله سبحانه كما يتعلق بغيره في تفسير قوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} [البقرة: 165].

و نزيد عليه هاهنا: أنه لا ريب أن الله سبحانه – على ما ينادي به كلامه – إنما يدعو عبده إلى الإيمان به و عبادته بالإخلاص له و الاجتناب عن الشرك كما قال تعالى: {أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} [الزمر: 3] ، و قال تعالى : {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة: 5] ، و قال تعالى: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [غافر: 14] ، إلى غير ذلك من الآيات.

و لا شك أن الإخلاص في الدين إنما يتم على الحقيقة إذا لم يتعلق قلب الإنسان – الذي لا يريد شيئا و لا يقصد أمرا إلا عن حب نفسي و تعلق قلبي – بغيره تعالى من معبود أو مطلوب كصنم أو ند أو غاية دنيوية بل و لا مطلوب أخروي كفوز بالجنة أو خلاص من النار و إنما يكون متعلق قلبه هو الله تعالى في معبوديته، فالإخلاص لله في دينه إنما يكون بحبه تعالى.

ثم الحب الذي هو بحسب الحقيقة الوسيلة الوحيدة لارتباط كل طالب بمطلوبه و كل مريد بمراده إنما يجذب المحب إلى محبوبه ليجده و يتم بالمحبوب ما للمحب من النقص و لا بشرى للمحب أعظم من أن يبشر أن محبوبه يحبه، و عند ذلك يتلاقى حبان، و يتعاكس دلالان.

فالإنسان إنما يحب الغذاء و ينجذب ليجده و يتم به ما يجده في نفسه من النقص الذي آتيه الجوع، و كذا يحب النكاح ليجد ما تطلبه منه نفسه الذي علامته الشبق و كذا يريد لقاء الصديق ليجده و يملك لنفسه الأنس و له يضيق صدره، و كذا العبد يحب مولاه و الخادم ربما يتوله لمخدومه ليكون مولى له حق المولوية، و مخدوما له حق المخدومية، و لو تأملت موارد التعلق و الحب أو قرأت قصص العشاق و المتولهين على اختلافهم لم تشك في صدق ما ذكرناه.

فالعبد المخلص لله بالحب لا بغية له إلا أن يحبه الله سبحانه كما أنه يحب الله و يكون الله له كما يكون هو لله عز اسمه فهذا هو حقيقة الأمر غير أن الله سبحانه لا يعد في كلامه كل حب له حبا و الحب في الحقيقة هو العلقة الرابطة التي تربط أحد الشيئين بالآخر على ما يقضي به ناموس الحب الحاكم في الوجود فإن حب الشيء يقتضي حب جميع ما يتعلق به، و يوجب الخضوع و التسليم لكل ما هو في جانبه، و الله سبحانه هو الله الواحد الأحد الذي يعتمد عليه كل شيء في جميع شئون وجوده و يبتغي إليه الوسيلة و يصير إليه كل ما دق و جل، فمن الواجب أن يكون حبه و الإخلاص له بالتدين له بدين التوحيد و طريق الإسلام على قدر ما يطيقه إدراك الإنسان و شعوره، و إن الدين عند الله الإسلام، و هذا هو الدين الذي يندب إليه سفراؤه، و يدعو إليه أنبياؤه و رسله، و خاصة دين الإسلام الذي فيه من الإخلاص ما لا إخلاص فوقه، و هو الدين الفطري الذي يختم به الشرائع و طرق النبوة كما يختم بصادعه الأنبياء (عليهم السلام)، و هذا الذي ذكرناه مما لا يرتاب فيه المتدبر في كلامه تعالى.

وقد عرف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبيله الذي سلكه بسبيل التوحيد، و طريقة الإخلاص على ما أمره الله سبحانه حيث قال: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [يوسف: 108] ، فذكر أن سبيله الدعوة إلى الله على بصيرة و الإخلاص لله من غير شرك فسبيله دعوة و إخلاص، و اتباعه واقتفاء أثره إنما هو في ذلك فهو صفة من اتبعه.

ثم ذكر الله سبحانه أن الشريعة التي شرعها له (صلى الله عليه وآله وسلم) هي الممثلة لهذا السبيل سبيل الدعوة والإخلاص فقال: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا} [الجاثية : 18] ، و ذكر أيضا أنه إسلام لله حيث قال: { فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عمران: 20] ، ثم نسبه إلى نفسه و بين أنه صراطه المستقيم فقال : {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام: 153] ، فتبين بذلك كله أن الإسلام و هو الشريعة المشرعة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو مجموع المعارف الأصلية و الخلقية و العملية و سيرته في الحيوة هو سبيل الإخلاص عند الله سبحانه الذي يعتمد و يبتني على الحب، فهو دين الإخلاص، و هو دين الحب.

ومن جميع ما تقدم على طوله يظهر معنى الآية التي نحن بصدد تفسيرها، أعني قوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فالمراد – و الله أعلم – إن كنتم تريدون أن تخلصوا لله في عبوديتكم بالبناء على الحب حقيقة فاتبعوا هذه الشريعة التي هي مبنية على الحب الذي ممثله الإخلاص والإسلام و هو صراط الله المستقيم الذي يسلك بسالكه إليه تعالى، فإن اتبعتموني في سبيلي و شأنه هذا الشأن أحبكم الله و هو أعظم البشارة للمحب، و عند ذلك تجدون ما تريدون، و هذا هو الذي يبتغيه محب بحبه، هذا هو الذي تقتضيه الآية الكريمة بإطلاقها.

وأما بالنظر إلى وقوعها بعد الآيات الناهية عن اتخاذ الكفار أولياء و ارتباطها بما قبلها فهذه الولاية لكونها تستدعي في تحققها تحقق الحب بين الإنسان و بين من يتولى كما تقدم كانت الآية ناظرة إلى دعوتهم إلى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن كانوا صادقين في دعواهم ولاية الله و أنهم من حزبه فإن ولاية الله لا يتم باتباع الكافرين في أهوائهم و لا ولاية إلا باتباع و ابتغاء ما عندهم من مطامع الدنيا من عز ومال بل تحتاج إلى اتباع نبيه في دينه كما قال تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ} [الجاثية: 18، 19] ، انظر إلى الانتقال من معنى الاتباع إلى معنى الولاية في الآية الثانية.

فمن الواجب على من يدعي ولاية الله بحبه أن يتبع الرسول حتى ينتهي ذلك إلى ولاية الله له بحبه.

وإنما ذكر حب الله دون ولايته لأنه الأساس الذي تبتني عليه الولاية، و إنما اقتصر على ذكر حب الله تعالى فحسب لأن ولاية النبي و المؤمنين تؤل بالحقيقة إلى ولاية الله.

قوله تعالى: {و يغفر لكم ذنوبكم و الله غفور رحيم}، الرحمة الواسعة الإلهية و ما عنده من الفيوضات المعنوية و الصورية غير المتناهية غير موقوفة على شخص أو صنف من أشخاص عباده و أصنافهم، و لا استثناء هناك يحكم على إطلاق إفاضته، ولا سبيل يلزمه على الإمساك إلا حرمان من جهة عدم استعداد المستفيض المحروم أو مانع أبداه بسوء اختياره، قال تعالى: {وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا } [الإسراء: 20].

والذنوب هي المانعة من نيل ما عنده من كرامة القرب و الزلفى و جميع الأمور التي هي من توابعها كالجنة و ما فيها، و إزالة رينها عن قلب الإنسان و مغفرتها و سترها عليه هي المفتاح الوحيد لانفتاح باب السعادة و الدخول في دار الكرامة، و لذلك عقب قوله: يحببكم الله بقوله: {ويغفر لكم ذنوبكم}، فإن الحب كما تقدم يجذب المحب إلى المحبوب، و كما كان حب العبد لربه يستدعي منه التقرب بالإخلاص له و قصر العبودية فيه كذلك حبه تعالى لعبده يستدعي قربه من العبد، و كشفه حجب البعد و سبحات الغيبة، ولا حجاب إلا الذنب فيستدعي ذلك مغفرة الذنوب، و أما ما بعده من الكرامة و الإفاضة فالجود كاف فيه كما تقدم آنفا.

والتأمل في قوله تعالى: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 14، 15] مع قوله تعالى في هذه الآية: {يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم} كاف في تأييد ما ذكرناه.

قوله تعالى: قل أطيعوا الله و الرسول، الخ لما كانت الآية السابقة تدعو إلى اتباع الرسول، و الاتباع و هو اقتفاء الأثر لا يتم إلا مع كون المتبع اسم مفعول سالك سبيل، والسبيل الذي يسلكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما هو الصراط المستقيم الذي هو لله سبحانه، وهو الشريعة التي شرعها لنبيه و افترض طاعته فيه كرر ثانيا في هذه الآية معنى اتباع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قالب الإطاعة إشعارا بأن سبيل الإخلاص الذي هو سبيل النبي هو بعينه مجموع أوامر و نواه ودعوة و إرشاد فيكون اتباع الرسول في سلوك سبيله هو إطاعة الله و رسوله في الشريعة المشرعة.

و لعل ذكره تعالى مع الرسول للإشعار بأن الأمر واحد، و ذكر الرسول معه سبحانه لأن الكلام في اتباعه.

ومن هنا يظهر عدم استقامة ما ذكره بعضهم في الآية: أن المعنى: أطيعوا الله في كتابه و الرسول في سنته.

وذلك أنه مناف لما يلوح من المقام من أن قوله: {قل أطيعوا الله و الرسول} “الخ” كالمبين لقوله: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}، على أن الآية مشعرة بكون إطاعة الله وإطاعة الرسول واحدة، و لذا لم يكرر الأمر، ولو كان مورد الإطاعة مختلفا في الله ورسوله لكان الأنسب أن يقال: أطيعوا الله و أطيعوا الرسول كما في قوله تعالى: {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ} [النساء: 59] ، كما لا يخفى.

واعلم أن الكلام في هذه الآية من حيث إطلاقها و من حيث انطباقها على المورد نظير الكلام في الآية السابقة.

قوله تعالى : فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين، فيه دلالة على كفر المتولي عن هذا الأمر كما يدل على ذلك سائر آيات النهي عن تولي الكفار و فيه أيضا إشعار بكون هذه الآية كالمبينة لسابقتها حيث ختمت بنفي الحب عن الكافرين بأمر الإطاعة، و قد كانت الآية الأولى متضمنة لإثبات الحب للمؤمنين المنقادين لأمر الاتباع فافهم ذلك.

وقد تبين من الكلام في هذه الآيات الكريمة أمور: أحدها: الرخصة في التقية في الجملة.

وثانيها: أن مؤاخذة تولي الكفار والتمرد عن النهي فيه لا يتخلف البتة، و هي من القضاء الحتم.

وثالثها: أن الشريعة الإلهية ممثلة للإخلاص لله والإخلاص له ممثل لحب الله سبحانه، وبعبارة أخرى الدين الذي هو مجموع المعارف الإلهية و الأمور الخلقية و الأحكام العملية على ما فيها من العرض العريض لا ينتهي بحسب التحليل إلا إلى الإخلاص فقط، وهو وضع الإنسان ذاته و صفات ذاته و هي الأخلاق و أعمال ذاته وأفعاله على أساس أنها لله الواحد القهار، والإخلاص المذكور لا يحلل إلا إلى الحب، هذا من جهة التحليل.

ومن جهة التركيب ينتهي الحب إلى الإخلاص، والإخلاص إلى مجموع الشريعة، كما أن الدين بنظر آخر ينحل إلى التسليم و التسليم إلى التوحيد.

ورابعها: أن تولي الكافرين كفر و المراد به الكفر في الفروع دون الأصول ككفر مانع الزكوة وتارك الصلوة و يمكن أن يكون كفر المتولي بعناية ما ينجر إليه أمر التولي على ما مر بيانه، و سيأتي في سورة المائدة.

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 138-142.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هاتين الآيتين (1) :

الحب الحقيقي :

تقول الآية الأُولى إِنّ الحبّ ليس بالعلاقة القلبية فحسب، بل يجب أن تظهر آثاره في عمل الإنسان. إنّ من يدّعي حبّ الله، فعليه أوّلاً اتّباع رسوله : {إن كنتم تحبّون الله فاتّبعوني}.

في الواقع أنّ من آثار الحبّ الطبيعية انجذاب المحبّ نحو المحبوب والاستجابة له. صحيح أنّ هناك حبّاً ضعيفاً لا تتجاوز أشعّته جدران القلب، إلاَّ أنّ هذا من التفاهة بحيث لا يمكن إعتباره حبّاً. لا شكّ أنّ للحبّ الحقيقي آثاراً عملية تربط المحبّ بالحبيب وتدفعه للسعي في تحقيق طلباته.

والدليل على ذلك واضح، فحبّ المرء شيئاً لابدّ أن يكون بسبب عثوره على أحد الكمالات فيه. لا يمكن أنّ يحبّ الإنسان مخلوقاً ليس فيه شيء من قوّة الجذب، وعليه فإنّ حبّ الإنسان لله ناشيء من كونه منبع جميع الكمالات وأصلها. إنّ محبوباً هذا شأنه لابدّ أن تكون أوامره كاملة أيضاً، فكيف يمكن لإنسان يعشق الكمال المطلق أن يعصي أوامر الحبيب وتعاليمه، فإن عصى فذلك دليل على أنّ حبّه غير حقيقي.

هذه الآية لا تقتصر في ردّها على مسيحيّي نجران والذين ادّعوا حبّ الله على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بل هذا الردّ أصيل وعامّ في منطق الإسلام موجّه إلى جميع العصور والقرون. إنّ الذين لا يفتأون ـ ليلَ نهار ـ يتحدّثون عن حبّهم لله ولأئمّة الإسلام وللمجاهدين في سبيل الله وللصالحين والأخيار، ولكنّهم لايشبهون أُولئك في العمل، هم كاذبون.

أُولئك الغارقون في الذنوب من قمة الرأس حتّى أخمص القدم، ومع ذلك فهم يرون أن قلوبهم مليئة بحبّ الله ورسوله وأمير المؤمنين والأئمّة العظام، أو الذين يعتقدون أنّ الإيمان والحبّ والمحبّة قلبية فحسب، هم غرباء على منطق الإسلام تماماً.

جاء في «معاني الأخبار» عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنّه قال : «ما أحبّ الله من عصاه». ثمّ قرأ الأبيات :

     تعصي الإله وأنت تظهر حبّه        هذا لعمرك في الفعال بديع

     لوكان حبّك صادقاً لأطعته            إنَّ المحبّ لمن يحبّ مطيع(2)

{يُحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم}.

تقول هذه الآية : إذا كنتم تحبّون الله، وبدت آثار ذلك في أعمالكم وحياتكم، فإنّ الله سيحبّكم أيضاً، وسوف تظهر آثار حبّه أنه سيغفر لكم ذنوبكم، ويشملكم برحمته.

والدليل على هذا الحبّ المتقابل من قِبل الله واضح أيضاً، لأنّه سبحانه موجود كامل ولا متناه من كلّ الجهات، وسيرتبط ـ على أثر السنخية ـ بكل موجود يقطع خطوات على طريق التكامل برباط الحبّ.

يتبيّن من هذه الآية أن ليس هناك حبّ من طرف واحد، لأنّ الحبّ يدفع المحبّ إلى أن يحقّق عملياً رغبات حبيبه. وفي هذه الحالة لا يمكن للمحبوب إلاَّ أن يرتبط بالمحبّ.

قد يسأل سائل : إذا كان المحبّ دائم الإطاعة لأوامر المحبوب، فلا يبقى له ذنب فيغفر له، ولذلك فإن جملة {ويغفر لكم ذنوبكم} ليست ذات موضوع.

في الجواب نقول : أوّلاً يمكن أن تعني هذه الجملة غفران الذنوب السابقة. وثانياً أنّ المحبّ لا يستمرّ في عصيان المحبوب، ولكن قد يزلّ أحياناً بسبب طغيان الشهوات، وهذا هو الذي يغفره الله سبحانه.

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص254-256.

2- بحار الانوار ،ج47، ص 24 ؛وتحف العقول ، ص294.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى