مقالات

تفسير آيات من القرآن الكريم (آل عمران 10-13)

قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ} [آل عمران: 10 – 13].

تفسير مجمع البيان
– ذكر الطبرسي في تفسير هذه  الآيات (1) :

بين تعالى حال الذين في قلوبهم زيغ، فقال: {إن الذين كفروا} بآيات الله ورسله {لن تغني} أي: لن تدفع {عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئا} قال أبو عبيدة: من هنا بمعنى عند. وقال المبرد: وهي على أصلها لابتداء الغاية وتقديره: لن تغني عنهم غنا ابتداء وانتهاء. وقيل: معناه من عذاب الله شيئا {وأولئك هم وقود النار} أي: حطب النار تتقد النار بأجسامهم، كما قال في موضع آخر: {حصب جهنم}.

كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ}

عادة هؤلاء الكفار في التكذيب بك، وبما أنزل إليك {كدأب آل فرعون} أي: كعادة آل فرعون في التكذيب برسولهم، وما أنزل إليه، عن ابن عباس وعكرمة ومجاهد والضحاك والسدي. وقيل: معناه اجتهاد هؤلاء الكفار في قهرك، وإبطال أمرك، كاجتهاد آل فرعون في قهر موسى، عن الأصم والزجاج.

وقيل: كعادة الله في آل فرعون في إنزال العذاب بهم، بما سلف من إجرامهم.

وقيل: كسنة آل فرعون، عن الربيع والكسائي وأبي عبيدة. وقيل: كأمر آل فرعون وشأنهم، عن الأخفش. وقيل: كحال آل فرعون، عن قطرب {والذين من قبلهم} يعني كفار الأمم الماضية {كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم} أي: عاقبهم الله بذنوبهم. وسمى المعاقبة مؤاخذة، لأنها أخذ بالذنب. فالأخذ بالذنب عقوبة {والله شديد العقاب} لمن يعاقبه.

{قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}.

لما وعد سبحانه الظفر لأهل الإيمان، بين ما فعله يوم بدر بأهل الكفر والطغيان، فقال: {قد كان لكم آية} قيل: الخطاب لليهود الذين نقضوا العهد أي: كان لكم أيها اليهود دلالة ظاهرة. وقيل: الخطاب للناس جميعا ممن حضر الوقعة. وقيل: للمشركين واليهود. آية أي: حجة وعلامة ومعجزة دالة على صدق

الخطاب. ومن اختار الياء: فللتصرف – في الكلام، والانتقال من خطاب المواجهة إلى الخبر بلفظ الغائب، ويؤيده قوله: {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف}، {قل للذين آمنوا يغفروا} وقيل: إن الخطاب لليهود، والضمير في {ستغلبون} للمشركين، لأن اليهود أظهروا السرور بما كان من المشركين يوم أحد فعلى هذا لا يكون إلا بالياء، لأن المشركين غيب.

لما تقدم ذكر ما أصاب القرون الخالية بالتكذيب للرسل من العذاب، حذر هؤلاء من أن يحل بهم ما حل بأولئك، فقال تعالى: {قل للذين كفروا} إما مشركي مكة، أو اليهود على ما تقدم ذكره {ستغلبون} أي: ستهزمون وتصيرون مغلوبين في الدنيا {وتحشرون} أي: تجمعون {إلى جهنم} في الآخرة. وقد فعل الله ذلك، فاليهود غلبوا بوضع الجزية عليهم، والمشركون غلبوا بالسيف. وإذا قرئ {سيغلبون} بالياء فقد يمكن أن يكون المغلوبون المحشورون من غير المخاطبين، وأنهم قوم آخرون، ويمكن أن يكونوا إياهم. قال الفراء: يقال قل لعبد الله إنه قائم، وإنك قائم. وإذا قرئ بالتاء فلا يجوز أن يظن هذا، فلا يكونون غير المخاطبين {وبئس المهاد} أي: بئس ما مهد لكم، وبئس ما مهدتم لأنفسكم، عن ابن عباس. وقيل: معناه بئس القرار، عن الحسن. وقيل: بئس الفراش الممهد لهم.

__________________

1- مجمع البيان ، الطبرسي ، ج2، ص244-249.

تفسير الكاشف
– ذكر محمد جواد مغنية في تفسير هذه  الآيات (1) :

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ :

 { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ ولا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ } . من يتتبع آي الذكر الحكيم ، وحديثه عن الأثرياء وأرباب المال يرى انه قد وصفهم بأقبح الأوصاف والرذائل ، منها الطغيان ، كما جاء في الآية 6 من سورة العلق : « إِنَّ الإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى » ومنها الغرور والجحود : ودَخَلَ جَنَّتَهُ وهُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً وما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً – الكهف 36 . ومنها الطمع وطلب المزيد :

{ وجَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً – إلى قوله – ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} [- المدثر 15] .

ومنها التوهم الباطل بأن الأموال تصونهم من عذاب اللَّه وعقابه : { وقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وأَوْلاداً وما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } 35 سبأ .

ودفع اللَّه سبحانه هذا التوهم بأن الأموال والأولاد لا يغنيان صاحبهما شيئا ، بل ان الأموال تجعل صاحبها غدا وقودا للنار ، تماما كالحطب والخشب ، وقد يظن أهل الباطل ان لهم من أموالهم وأولادهم حماية ووقاية في هذه الحياة ، حتى إذا وقفوا مع أهل الحق وجها لوجه في ساحة القتال والجهاد استبان لهم عجزهم وضعفهم ، لأن اللَّه يؤيد الصادقين بنصره ، ويذل من هو مسرف كذاب .

أرباب المال :

ما عرف التاريخ أسوأ وأفدح وأعظم من أسوأ أرباب المال والثروات المكدسة في هذا العصر . . انهم يثيرون الفتن والحروب ويدبرون المكائد والمصائد ضد كل حركة تحررية في أي طرف من أطراف العالم . . فيبثون كتائب العملاء ، ووحدات الأساطيل ، وجواسيس المخابرات في كل بقعة من بقاع الأرض ، ليحوّلوا العالم بكامله إلى شركة مساهمة يملكها أصحاب الملايين . . انهم لا يؤمنون باللَّه ، ولا بالانسانية ، ولا بشيء إلا بالأسهم ، تدفع الشعوب أرباحها من خبزها ودمائها ومستقبلها ، ويستغلون دولهم لإشاعة الرعب والتخويف والضغط الاقتصادي والسياسي على الضعفاء ، ويعملون بكل سبيل لتجزئة البلد الواحد ، وتفتيت الوحدة الوطنية ، ليخضع الجميع لاستثماراتهم واحتكاراتهم . . ومن أجل هذا حرّم الإسلام الاحتكار ، والثراء غير المشروع ، واستخدام القوة والضغط على الضعفاء ، وهدد الذين يكنزون الأموال ولا ينفقونها في سبيل اللَّه ، ووصفهم بالطغاة العتاة .

{ كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ والَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ واللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ } . أي ان كثرة المال والولد ليست سببا للفوز والنجاة ، فكثيرا ما تغلَّب الفقراء على الأغنياء ، والقلة على الكثرة ، والتاريخ مملوء بالشواهد على هذه الحقيقة . . فلقد كان لفرعون وقومه الجاه والسلطان ، والمال والعدة والعدد ، ومع ذلك خذلهم اللَّه ، ونصر موسى وقومه ، ولا مال لهم ولا عدة ولا عدد ، كما نصر من قبل نوحا على قومه ، وإبراهيم على النمرود ، وهودا على عاد ، وصالحا على ثمود . . فالكثرة والثروة – إذن – ليستا بضمان ولا أمان ، وعليه فالذين كذبوا محمدا ( صلى الله عليه واله ) معرّضون لنفس المصير .

{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وبِئْسَ الْمِهادُ } . جاء في مجمع البيان ان اللَّه سبحانه لما نصر نبيّه ببدر قدم المدينة ، وجمع اليهود ، وقال لهم : احذروا من اللَّه أن يصيبكم ما أصاب قريشا ببدر ، وأسلموا . . فقالوا :

لا يغرنك انك لقيت قوما لا علم لهم بالحرب ، ولو قاتلناك لعرفت أنّا نحن الناس ، فأنزل اللَّه سبحانه هذه الآية . وقد صدق اللَّه وعده ، فقتل المسلمون بني قريظة الخائنين ، وأجلوا بني النضير المنافقين ، وفتحوا خيبر ، وضربوا الجزية على من عداهم من اليهود .

{ قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ واللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصارِ } . وعظ اللَّه بهذه الآية اليهود والنصارى والمسلمين وأولي الأبصار أجمعين ، وعظهم بوقعة بدر ، حيث التقى حزب الرحمن ، وهم محمد وأصحابه ، مع حزب الشيطان ، وهم أبو سفيان وأذنابه ، ومكان العظة في هذه الواقعة ان حزب الشيطان كانوا أكثر من ألف مدججين بالسلاح الكافي الوافي ، وكان حزب الرحمن بمقدار ثلثهم عددا ، لا يملكون من العدة إلا فرسين ، وسبعة أدرع ، وثمانية سيوف ، ومع ذلك كتب اللَّه النصر للفئة القليلة على الفئة الكثيرة ، وأرى اللَّه المشركين ان المسلمين مثليهم مع قلة عددهم ، وهذه الآية نظير الآية 44 من سورة الأنفال : { وإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا ويُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا وإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ } . وأمر اللَّه سبحانه هو أن يتخاذل المشركون ، ويهابوا المسلمين ، وينصرهم اللَّه على أعدائه .

وبهذه المناسبة نذكر نصيحة الإمام علي ( عليه السلام ) للخليفة الثاني حين استشاره في غزو الروم بنفسه ، قال الإمام :

« الذي نصر المسلمين ، وهم قليل لا ينتصرون ، ومنعهم ، وهم قليل لا يمتنعون حي لا يموت ، انك متى تسر إلى هذا العدو بنفسك ، فتلقهم بشخصك فتنكب لا تكن للمسلمين كانفة دون أقصى بلادهم ، ليس بعدك مرجع يرجعون إليه ، فابعث إليهم رجلا مجربا ، واحفز معه أهل البلاء والنصيحة ، فان أظهر اللَّه فذاك ما تحب ، وان تكن الأخرى كنت ردءا للناس ، ومثابة للمسلمين » .

_____________________

1- الكاشف ، محمد جواد مغنية ، ج2 ، ص15-19.

تفسير الميزان
– ذكر الطباطبائي في تفسير هذه الآيات (1) :

قد تقدم : أن المسلمين عند نزول السورة كانوا مبتلين في داخل جماعتهم بالمنافقين و آخرين سماعين لهم و لما يلقيه إليهم أعداء الإسلام من النزاعات و الوساوس لتقليب الأمور عليهم و إفساد دعوتهم، و مبتلين في خارج جمعهم بثوران الدنيا عليهم و انتهاض المشركين و اليهود و النصارى لإبطال دعوتهم و إخماد نارهم و إطفاء نورهم بأي وسيلة أمكنت من لسان أو يد.

وأن غرض السورة دعوتهم إلى توحيد الكلمة وإلى الصبر والثبات ليصلح بذلك أمرهم وينقطع ما نشأ من الفساد في داخل جوهم، و ما يطرأ و يهجم عليهم منه من خارجه.

وقد كانت الآيات السابقة أعني قوله تعالى : {هو الذي أنزل عليك الكتاب} إلى قوله تعالى : {إن الله لا يخلف الميعاد} تعريضا للمنافقين و الزائقين قلبا و دعوة للمسلمين إلى التثبت فيما فهموه من معارف الدين، و التسليم و الإيمان فيما اشتبه لهم و لم يفتهموه من كنهه و حقيقته بالتنبيه على أن شر ما يفسد أمر الدين و يجر المسلمين إلى الفتنة و اختلال نظام السعادة هو اتباع المتشابهات و ابتغاء التأويل فيتحول بذلك الهداية الدينية إلى الغي و الضلال و يتبدل به الاجتماع افتراقا، و الشمل شتاتا.

ثم وقع التعرض في هذه الآيات لحال الكفار و المشركين و أنهم سيغلبون و ليسوا بمعجزين لله سبحانه و لا ناجحين في عتوهم بالتنبيه على أن الذي أوجب ضلالهم و الالتباس عليهم هو ما زين لهم من مشتهيات الدنيا فزعموا بما رزقوا من مالها و ولدها أن ذلك مغن لهم من الله سبحانه شيئا و قد أخطئوا في زعمهم فالله سبحانه هو الغالب في أمره، و لو كان المال و الأولاد و ما أشبهها مغنية من الله شيئا لأغنت آل فرعون و من قبلهم من الأمم الظالمة أولي الشوكة و القدرة لكنها لم تغن عنهم شيئا و أخذهم الله بذنوبهم فكذلك هؤلاء سيغلبون و يؤخذون فمن الواجب على المؤمنين أن يتقوا الله في هذه المشتهيات حتى ينالوا بذلك سعادة الدنيا و ثواب الآخرة و رضوان ربهم سبحانه.

فالآيات كما تعطيه مضامينها متعرضة لحال الكفار كما أن الآيات التالية لهذه الآيات متعرضة لحال أهل الكتاب من اليهود و النصارى على ما سيأتي.

قوله تعالى : {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا}، أغنى عنه ماله من فلان أي أعطاه الغنى و رفع حاجته فلا حاجة به إليه، و الإنسان في بادي تكونه و شعوره يرى نفسه محتاجة إلى الخارج منه، و هذا أول علمه الفطري إلى احتياجه إلى الصانع المدبر ثم إنه لما توسط في الأسباب و أحس بحوائجه بدأ بإحساس الحاجة إلى كماله البدني النباتي و هو الغذاء و الولد، ثم عرفت له نفسه سائر الكمالات الحيوانية، و هي التي يزينوا له الخيال من زخارف الدنيا من زينة الملبس و المسكن و المنكح و غير ذلك، و عندئذ يتبدل طلب الغذاء إلى طلب المال الذي يظنه مفتاحا لحل جميع مشكلات الحيوة لأن العادة الغالبة تجري على ذلك فيظن أن سعادة حيوته في المال و الولد بعد ما كان يظن أن ضامن سعادته هو الغذاء و الولد، ثم انكباب نفسه على مشتهياته، و قصر همه على الأسباب يوجب أن يقف قلبه عند الأسباب، و يعطي لها الاستقلال، و حينئذ ينسى ربه، و يتشبث بذيل المال و الولد، و في هذا الجهل هلاكه فإنه يستر به آيات ربه و يكفر بها، و قد التبس عليه الأمر فإن ربه هو الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا يستغني عنه شيء بحال و لا يغني عنه شيء بحال.

و بهذا البيان يظهر وجه تقديم الأموال على الأولاد في الآية فإن الركون إلى المال – و قد عرفت أن الأصل فيه الغذاء – أقدم عند الإنسان من الركون إلى الأولاد و أعرف منه و إن كان حب الولد ربما غلب عند الإنسان على حب المال.

و في الآية إيجاز شبيه دفع الدخل، و التقدير : إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا و زعموا أن أموالهم و أولادهم تغنيهم من الله، و قد أخطئوا فلا غنى من الله سبحانه في وقت و لا في شيء، على ما تدل عليه الآية التالية.

قوله تعالى : {وأولئك هم وقود النار}، الوقود بفتح الواو ما توقد به النار و تشتعل، و الآية جارية مجرى قوله تعالى : {فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [البقرة: 24] ، و قوله تعالى : {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98] ، و قد مر بعض الكلام في معنى ذلك في سورة البقرة.

والإتيان بالجملة الاسمية، و الابتداء باسم الإشارة، و كونه دالا على البعد و توسيط ضمير الفصل، و إضافة الوقود إلى النار دون أن يقال وقود، كل ذلك يؤكد ظهور الكلام في الحصر، و لازمه كون المكذبين من الكفار هم الأصل في عذاب النار و إيقاد جهنم، و أن غيرهم إنما يحترقون بنارهم، و يتأيد بذلك ما سيأتي بيانه في قوله تعالى : {لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ} [الأنفال: 37].

قوله تعالى : {كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم} إلى آخر الآية : الدأب على ما ذكروه هو السير المستمر قال تعالى : {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ} [إبراهيم: 33] و منه تسمية العادة دأبا لأنه سير مستمر، و هذا المعنى هو المراد في الآية.

وقوله : {كدأب}، متعلق بمقدر يدل عليه قوله في الآية السابقة :{ لن تغني عنهم}، و يفسر الدأب قوله : كذبوا بآياتنا و هو في موضع الحال، و تقدير الكلام كما مرت إليه الإشارة :{ إن الذين كفروا كذبوا بآياتنا} واستمروا عليها دائبين فزعموا أن في أموالهم و أولادهم غنى لهم من الله كدأب آل فرعون و من قبلهم و قد كذبوا بآياتنا.

وقوله : {فأخذهم الله بذنوبهم}، ظاهر الباء أنها تفيد السببية، يقال : أخذته بذنبه أي بسبب ذنبه لكن مقتضى المحاذاة التي بين الآيتين، و قياسه حال هؤلاء الذين كفروا في دأبهم على آل فرعون و الذين من قبلهم في دأبهم أن يكون البناء للآلة، فإنه ذكر في الذين كفروا أنهم وقود النار تشتعل عليهم أنفسهم و يعذبون بها فكذلك آل فرعون و من قبلهم إنما أخذوا بذنوبهم و كان العذاب الذي حل بساحتهم هو عين الذنوب التي أذنبوها، و كان مكرهم هو الحائق بهم، و ظلمهم عائدا إليهم، قال تعالى : {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ، و قال تعالى : {وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} [البقرة: 57].

ومن هنا يتبين معنى كونه شديد العقاب، فإن عقابه تعالى لا يقصد الإنسان و لا يتوجه إليه من جهة دون جهة، و في محل دون محل، و على شرط دون شرط كما أن عقاب غيره كذلك فإن الشر الذي يوجهه إلى الإنسان مثله مثلا إنما يتوجه إليه من بعض الجهات دون بعض كفوق و تحت، و في بعض الأماكن دون بعض فيدفع بالفرار والتوقي و الالتجاء مثلا و هذا بخلاف عقابه تعالى فإنه يأخذ الإنسان بعمله و ذنبه و هو مع الإنسان في باطنه و ظاهره من غير أن ينفك عنه، و يجعل الإنسان وقودا لنار أحاط به سرداقها، و لا ينفعه فرار و لا قرار، و لا يوجد منه مناص و لا خلاص، فهو شديد العقاب.

و في قوله تعالى :{ كذبوا بآياتنا فأخذهم الله}، التفات من الغيبة إلى الحضور أولا ثم من الحضور إلى الغيبة ثانيا، أما قوله : كذبوا بآياتنا ففيه تنشيط لذهن السامع و تقريب للخبر إلى الصدق فإنه بمنزلة أن يقول القائل : إن فلانا بذي فحاش سيىء المحاضرة وقد ابتليت به فيجب الاجتناب عن معاشرته، فجملة و قد ابتليت به تصحيح للخبر و إثبات لصدقه بإرجاعه إلى الدراية و نحو من الشهادة.

فالمعنى – والله أعلم – أن آل فرعون كانوا دائبين على دأب هؤلاء الذين كفروا في الكفر و تكذيب الآيات، و لا ريب في هذا الخبر فإنا كنا حاضرين شاهدين و قد كذبوا بآياتنا نحن فأخذناهم.

وأما قوله : {فأخذهم الله}، فهو رجوع بعد استيفاء المقصود إلى الأصل في الكلام و هو أسلوب الغيبة، و فيه مع ذلك إرجاع الحكم إلى مقام الألوهية القائمة بجميع شئون العالم و المهيمنة على كل ما دق و جل، و لذلك كرر لفظ الجلالة ثانيا في قوله و الله شديد العقاب، ولم يقل وهو شديد العقاب للدلالة على أن كفرهم و تكذيبهم هذا منازعة ومحاربة مع من له جلال الألوهية و يهون عليه أخذ المذنب بذنبه، و هو شديد العقاب لأنه الله جل اسمه.

قوله تعالى : {قل للذين كفروا ستغلبون و تحشرون} إلى آخر الآية، الحشر هو إخراج الجماعة عن مقرهم بالإزعاج، ولا يستعمل في الواحد، قال تعالى : {وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا } [الكهف: 47] ، و المهاد هو الفراش، و ظاهر السياق أن المراد بالذين كفروا هم المشركون كما أنه ظاهر الآية السابقة : {إن الذين كفروا لن تغني عنهم }”الخ” دون اليهود، و هذا هو الأنسب لاتصال الآيتين حيث تذكر هذه الآية الغلبة عليهم و حشرهم إلى جهنم و قد أشارت الآية السابقة إلى تقويهم و تعززهم بالأموال و الأولاد.

قوله تعالى : {قد كان لكم آية في فئتين التقتا}، ظاهر السياق أن يكون الخطاب للذين كفروا، و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ستغلبون و تحشرون “الخ” ومن الممكن أن يكون خطابا للمؤمنين بدعوتهم إلى الاعتبار و التفكر بما من الله عليهم يوم بدر حيث أيدهم بنصره تأييدا عجيبا بالتصرف في أبصار العيون، وعلى هذا يكون الكلام مشتملا على نوع من الالتفات بتوسعة خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله : {قل للذين} بتوجيهه إليه و إلى من معه من المؤمنين، لكن السياق، كما عرفت، للأول أنسب.

والآية – بما تشتمل عليه من قصة التقاء الفئتين و نصرة تعالى للفئة المقاتلة في سبيل الله – و إن لم تتعرض بتشخيص القصة و تسمية الوقعة غير أنها قابلة الانطباق على وقعة بدر، و السورة نازلة بعدها بل و بعد أحد.

على أن الآية ظاهرة في أن هذه القصة كانت معهودة عند المخاطبين بهذه الخصوصية و هم على ذكر منها حيث يقول : قد كان لكم آية “الخ” و لم يقص تعالى قصة يذكر فيها التصرف في أبصار المقاتلين غير قصة بدر، و الذي ذكره في قصة بدر في سورة الأنفال من قوله تعالى : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} [الأنفال: 44] ، و إن كان هو التقليل دون التكثير لكن لا يبعد أن يكون قد قلل فيها المؤمنين في أعين المشركين ليجترئوا عليهم و لا يتولوا عن المقارعة ثم كثرهم في أعينهم بعد التلاقي و الاختلاط لينهزموا بذلك.

و كيف كان فالمعتمد ما كان في ذكرهم من التكثير في العيون فعلى تقدير أن يكون الخطاب في الآية متوجها إلى المشركين لا تنطبق الآية على غير وقعة بدر، على أن قراءة ترونهم بالتاء أيضا تؤيد ما ذكرناه.

فمحصل معنى الآية : أنكم أيها المشركون لو كنتم من أولي الأبصار و البصائر لكفاكم في الاعتبار و الدلالة على أن الغلبة للحق و أن الله يؤيد بنصره من يشاء و لا يغلب بمال و لا ولد ما رأيتموه يوم بدر فقد كان المؤمنون مقاتلين في سبيل الله سبحانه، و قد كانوا فئة قليلة مستذلين لا يبلغون ثلث الفئة الكافرة، و لا يقاسون بهم قوة، كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا ليس لهم إلا ستة أدرع و ثمانية سيوف و فرسان، و كان جيش المشركين قريبا من ألف مقاتل لهم من العدة و القوة و الخيل و الجمال و الهيئة ما لا يقدر بقدر، فنصر الله المؤمنين على قلتهم و ذلتهم على أعدائه و كثرهم في أعينهم فكانوا يرونهم مثليهم رأي العين، و أيدهم الملائكة فلم ينفع المشركين ما كانوا يتعززون به من أموال و أولاد و لم يغنهم جمعهم و لا كثرتهم و قوتهم من الله شيئا.

و قد ذكر الله سبحانه دأب آل فرعون و الذين من قبلهم في تكذيب آيات الله و أخذهم بذنوبهم في سورة الأنفال عند ذكر القصة مرتين ما ذكره هاهنا بعينه.

و في موعظتهم بتذكير وقعة بدر إيماء إلى أن المراد بالغلبة في الآيات السابقة الغلبة بالقتل و الإبادة ففي آياته تهديد بالقتال.

قوله تعالى : {فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة}، لم يقل و أخرى في سبيل الشيطان أو في سبيل الطاغوت و نحو ذلك لأن الكلام غير مسوق للمقايسة بين السبيلين بل لبيان أن لا غنى من الله تعالى و أن الغلبة له فالمقابلة بالحقيقة بين الإيمان بالله و الجهاد في سبيله و بين الكفر به تعالى.

والظاهر من السياق أن الضميرين في قوله يرونهم مثليهم راجعان إلى قوله : فئة تقاتل، أي الفئة الكافرة يرون المؤمنين مثلي المؤمنين فهم يرونهم ستمائة و ستة و عشرين و لقد كانوا ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، و أما احتمال اختلاف الضميرين مرجعا بأن يكون المعنى : يرون المؤمنين مثلي عدد الكافرين فبعيد عن اللفظ، و هو ظاهر.

وربما احتمل أن يكون الضميران راجعين إلى الفئة الكافرة، و يكون المعنى : يرى الكافرون أنفسهم مضاعفة مثلي عددهم يرون الألف ألفين و لازمه تقليلهم المؤمنين في النسبة فكانوا يرونهم سدس أنفسهم عددا مع كونهم ثلثا لهم في النسبة و ذلك ليطابق ما ذكره في هذه الآية قوله تعالى في قصة بدر : {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ} [الأنفال: 44] ، فإن الآية تنافي الآية.

و أجيب بأن ذلك يؤدي إلى اللبس غير اللائق بأبلغ الكلام بل كان من اللازم على هذا أن يقال : يرون أنفسهم مثليهم أو ما يؤدي ذلك.

و أما التنافي بين الآيتين فإنما يتحقق مع اتحاد الموقف و المقام، و لا دليل على ذلك لإمكان أن يقلل الله سبحانه كلا من الطائفتين في عين صاحبتها في بدء التلاقي لتشد بذلك قلوبهم و تزيد جرأتهم حتى إذا نشبت المقارعة و حمي الوطيس رأى الكافرون المؤمنين مثلي عددهم فانهزموا بذلك و ولوا الأدبار، و هذا نظير قوله تعالى في وصف يوم القيامة : {لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39] ، مع قوله : {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: 24] ، و ليس إلا أن الموقف غير الموقف.

و في شأن الضميرين أعني في قوله : يرونهم مثليهم، احتمالات أخر ذكروها غير أن الجميع تشترك في كونها خلاف ظاهر اللفظ، و لذلك تركنا ذكرها، و الله العالم.

قوله تعالى : {و الله يؤيد بنصره من يشاء}، إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار، التأييد من الأيد و هو القوة، و المراد بالأبصار قيل : هو العيون الظاهرية لكون الآية مشتملة على التصرف في رؤية العيون، و قيل : هو البصائر لأن العبرة إنما تكون بالبصيرة القلبية دون البصر الظاهري، و الأمر هين، فإن الله سبحانه في كلامه يعد من لا يعتبر بالعبر و المثلات أعمى، و يذكر أن العين يجب أن تبصر و تميز الحق من الباطل و في ذلك دعوى أن الحق الذي يدعو إليه ظاهر متجسد محسوس يجب أن يبصره البصر الظاهر، و أن البصيرة و البصر في مورد المعارف الإلهية واحد بنوع من الاستعارة لنهاية ظهورها و وضوحها، و الآيات في ذلك كثيرة جدا، و من أحسنها دلالة على ما ذكرنا قوله تعالى : {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج: 46] ، أي إن الأبصار إنما هي في القلوب دون الرءوس، وقوله تعالى : {وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا} [الأعراف: 179] ، والآية في مقام التعجيب، و قوله تعالى : {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [الجاثية: 23] ، إلى غير ذلك من الآيات، فالمراد بالأبصار فيما نحن فيه هو العيون الظاهرية بدعوى أنها هي التي تعتبر و تفهم فهو من الاستعارة بالكناية، و النكتة فيه ظهور المعنى كأنه بالغ حد الحس، و يزيد في لطفه أن المورد يتضمن التصرف في رؤية العين الظاهرة.

و ظاهر قوله : إن في ذلك “الخ” أنه تتمة لكلامه تعالى الذي يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ليس تتمة لقول النبي المدلول عليه بقوله : {قل للذين كفروا }الخ”، و الدليل عليه الكاف في قوله : ذلك، فإنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في هذا العدول إلى الخطاب الخاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إيماء إلى قلة فهمهم و عمى قلوبهم أن يعتبروا بأمثال هذه العبر.

قوله تعالى : {زين للناس حب الشهوات من النساء }”الخ”، الآية و ما يتلوها بمنزلة البيان و شرح حقيقة الحال لما تقدم من قوله تعالى آنفا :{ إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم من الله شيئا} “الخ” إذ يظهر منه أنهم يعتقدون الاستغناء بالأموال و الأولاد من الله سبحانه فالآية تبين أن سبب ذلك أنهم انكبوا على حب هذه المشتهيات و انقطعوا إليها عن ما يهمهم من أمر الآخرة، و قد اشتبه عليهم الأمر فإن ذلك متاع الحيوة الدنيا، ليس لها إلا أنها مقدمة لنيل ما عند الله من حسن المآب مع أنهم غير مبدعين في هذا الحب و الاشتهاء و لا مبتكرون بل مسخرون بالتسخير الإلهي بتغريز أصل هذا الحب فيهم ليتم لهم الحيوة الأرضية فلو لا ذلك لم يستقم أمر النوع الإنساني في حيوته و بقائه بحسب ما قدره الله سبحانه من أمرهم حيث قال : {وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} [البقرة: 36].

وإنما قدر لهم ذلك ليتخذوها وسيلة إلى الدار الآخرة و يأخذوا من متاع هذه ما يتمتعون به في تلك لا لينظروا إلى ما في الدنيا من زخرفها و زينتها بعين الاستقلال وينسوا بها ما وراءها، و يأخذوا الطريق مكان المقصد في عين أنهم سائرون إلى ربهم، قال تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا} [الكهف: 7، 8].

إلا أن هؤلاء المغفلين أخذوا هذه الوسائل الظاهرة الإلهية التي هي مقدمات و ذرائع إلى رضوان الله سبحانه أمورا مستقلة في نفسها محبوبة لذاتها و زعموا أنها تغني عنهم من الله شيئا فصارت نقمة عليهم بعد ما كانت نعمة و وبالا بعد ما كانت مثوبة مقربة.

قال تعالى : {إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ } [يونس: 24] إلى أن قال : {ويوم يحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم} إلى أن قال : {وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ} [يونس: 30] تشير الآيات إلى أمر الحيوة و زينتها بيده تعالى لا ولي لها دونه لكن الإنسان باغتراره بظاهرها يظن أن أمرها إليه، و أنه قادر على تدبيرها وتنظيمها فيتخذ لنفسه فيها شركاء – كالأصنام وما بمعناها من المال و الولد وغيرهما، إن الله سيوقفه على زلته فيذهب هذه الزينة، و يزيل الروابط التي بينه و بين شركائه، و عند ذلك يضل عن الإنسان ما افتراه على الله من شريك في التأثير و يظهر له معنى ما علمه في الدنيا و حقيقته، و رد إلى الله مولاه الحق.

وهذا التزين أعني : ظهور الدنيا للإنسان بزينة الاستقلال وجمال الغاية والمقصد لا يستند إلى الله سبحانه فإن الرب العليم الحكيم أمنع ساحة من أن يدبر خلقه بتدبير لا يبلغ به غايته الصالحة، وقد قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} [الطلاق: 3] ، وقال تعالى : {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ} [يوسف: 21] ، بل إن استند فإنما يستند إلى الشيطان قال تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } [الأنعام: 43] ، و قال تعالى : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ } [الأنفال: 48].

نعم لله سبحانه الإذن في ذلك ليتم أمر الفتنة، و تستقيم التربية كما قال تعالى : { أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ} [العنكبوت: 2 – 4] ، وعلى هذا الإذن يمكن أن يحمل قوله تعالى : {كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ} [الأنعام: 108] ، و إن أمكن أيضا أن يحمل على ما مر من معنى التزيين المنسوب إليه تعالى في قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا } [الكهف: 7].

و بالجملة التزيين تزيينان : تزيين للتوسل بالدنيا إلى الآخرة و ابتغاء مرضاته في مواقف الحياة المتنوعة بالأعمال المختلفة المتعلقة بالمال و الجاه و الأولاد و النفوس، وهو سلوك إلهي حسن، نسبه الله تعالى إلى نفسه كما مر من قوله : إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها الآيات، و كقوله تعالى : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ} [الأعراف: 32].

وتزيين لجلب القلوب وإيقافها على الزينة وإلهائها عن ذكر الله و هو تصرف شيطاني مذموم، نسبه الله سبحانه إلى الشيطان، و حذر عباده عنه كما مر من قوله تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 43] الآية، و قوله تعالى فيما يحكيه من قول الشيطان : { قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر: 39] ، و قوله تعالى : {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} [التوبة: 37] ، إلى غير ذلك من الآيات.

و هذا القسم ربما نسب إليه تعالى من حيث إن الشيطان و كل سبب من أسباب الخير أو الشر إنما يعمل ما يعمل و يتصرف في ملكه ما يتصرف بإذنه لينفذ ما أراده و شاءه، و ينتظم بذلك أمر الصنع و الإيجاد، و يفوز الفائزون بحسن إرادتهم و اختيارهم، و يمتاز المجرمون.

و بما مر من البيان يظهر أن المراد من فاعل التزيين المبهم في قوله : {زين للناس حب الشهوات} “الخ” ليس هو الله سبحانه فإن التزيين المذكور وإن كان له نسبة إليه تعالى سواء كان تزيينا صالحا لأن يدعو إلى عبادته تعالى وهو المنسوب إليه بالاستقامة أو تزيينا ملهيا عن ذكره تعالى و هو المنسوب إليه بالإذن، لكن لاشتمال الآية على ما لا ينسب إليه مستقيما كما يجيء بيانه كان الأليق بأدب القرآن أن ينسب إلى غيره تعالى كالشيطان أو النفس.

ومن هنا يظهر صحة ما ذكره بعض المفسرين : أن فاعل زين هو الشيطان لأن حب الشهوات أمر مذموم، و كذا حب كثرة المال مذموم، و قد خص تعالى بنفسه ما ذكره في آخر الآية و في ما يتلوها.

و يظهر به فساد ما ذكره بعضهم : أن الكلام في طبيعة البشر و الحب الناشىء فيها و مثله لا يسند إلى الشيطان بحال و إنما يسند إليه ما هو قبيل الوسوسة التي تزين للإنسان عملا قبيحا.

قال : ولذلك لم يسند إليه القرآن إلا تزيين الأعمال، قال تعالى : {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم}، و قال {و زين لهم الشيطان ما كانوا يعملون}، و أما الحقائق و طبائع الأشياء فلا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له، قال عز و جل : {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا}و قال :{ كذلك زينا لكل أمة عملهم} فالكلام في الأمم كلام في طبائع الاجتماع، انتهى.

وجه الفساد : أنه و إن أصاب في قوله : إن الحقائق و طبائع الأشياء لا تسند إلا إلى الخالق الحكيم الذي لا شريك له لكنه أخطأ في قوله : إن الكلام في طبيعة البشر و ما ينشأ منها بحسب الطبع، و ذلك أن السورة كما علمت في مقام بيان أن الله سبحانه هو القيوم على خلقه في جميع ما هم عليه من الخلق و التدبير و الإيمان و الكفر و الإطاعة و العصيان، خلق الخلق و هداهم إلى سعادتهم، و أن الذين نافقوا في دينه من المنافقين أو كفروا بآياته من الكافرين أو بغوا بالاختلاف في كتابه من أهل الكتاب، و بالجملة الذين أطاعوا الشيطان و اتبعوا الهوى ليسوا بمعجزين لله غالبين عليه مفسدين لقيمومته بل الجميع راجع إلى قدره و تدبيره أمر خلقه في تحكيم ناموس الأسباب لتقوم بذلك سنة الامتحان فهو الخالق للطبائع و قواها و ميولها و أفعالها لتسلك بها إلى جوار ربها جوار القرب و الكرامة، و هو الذي أذن لإبليس و لم يمنعه من الوسوسة و النزعة و لم يمنع الإنسان من اتباعه باتباع الهوى ليتم أمر الامتحان و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منهم شهداء، و إنما بين ذلك في هذه السورة ليتسلي بذلك نفوس المؤمنين، ويطيب بذلك قلوبهم بما هم عليه عند نزول السورة من العسرة و الشدة والابتلاء من الداخل بنفاق المنافقين و جهالة الذين في قلوبهم مرض بإفساد الأمور وتقليبها عليهم، و التقصير في طاعة الله و رسوله، و من الخارج بالدعوة الشاقة الدينية، و وثوب الكفار من العرب عليهم من جانب، و أهل الكتاب و اليهود منهم خاصة من جانب آخر، و تهديد الكفار كالروم و العجم بالقوة و العدة من جانب آخر، وهؤلاء الكافرون و من يحذو حذوهم اشتبه عليهم الأمر في الركون إلى الدنيا و زخارفها حيث أخذوها غاية و هي مقدمة و الغاية أمامها.

فالسورة كما ترى تبحث عن طبائع الأمم لكن بنحو وسيع يشمل جهات خلقهم و تكوينهم وجميع ما يتعقب ذلك في مسير حيوتهم من الخصائل و أعمال السعادة و الشقاوة والطاعة والمعصية فتبين أن ذلك كله تحت قيمومته تعالى لا يقهر في قدرته، ولا يغلب في أمره لا في الدنيا و لا في الآخرة أما في الدنيا فإنما هو إذن و امتحان، و أما في الآخرة فإنما هو الجزاء إن خيرا فخير و إن شرا فشر.

وكذلك الآيات أعني قوله : {إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم و لا أولادهم} إلى تمام تسع آيات في مقام بيان أن الكفار و إن كذبوا آيات ربهم و بدلوا نعم الله التي أنعمها عليهم ليتوسلوا بها إلى رضوانه و جنته فركنوا و اعتمدوا عليها و استغنوا بها عن ربهم، و نسوا مقامه ليسوا بمعجزين و لا غالبين فسيأخذهم الله بنفس أعمالهم، و يؤيد عباده المؤمنين عليهم و سيحشرهم إلى جهنم و بئس المهاد، و هم مع ذلك غالطون في الركون إلى ما ليس إلا متاعا في الحياة الدنيا و عند الله حسن المآب، فالآيات أيضا تبحث عن طبيعة الكفار لكن بنحو وسيع يشمل الصالح و الطالح من أعمالهم.

على أن الآية التي ذكرها هذا القائل مستشهدا بها على أن الحقائق لا تسند إلا إلى الله وإنما يسند إلى الشيطان الأعمال أعني قوله تعالى : “كذلك زينا لكل أمة عملهم” يدل بما حف عليه من القرائن على خلاف ذلك و يؤيد ما ذكرناه و هو قوله تعالى : {تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 108] ، و هو ظاهر.

وكذا يظهر فساد ما ذكره بعضهم : أن التزيين على قسمين محمود و مذموم و الأعمال نوعان حسنة و سيئة، و إنما يسند إلى الله سبحانه ما هو منها محمود ممدوح حسن، و الباقي للشيطان و هو وإن كان حقا من وجه و لكنه إنما يصح في النسبة المستقيمة التي يعبر عنه بالفعل و نحوه فالله سبحانه لا يفعل إلا الجميل، و لا يأمر بالسوء و الفحشاء، وأما النسبة غير المستقيمة و بالواسطة التي يعبر عنه بالإذن و نحوه فلا مانع عنها، و لو لا ذلك لم يستقم ربوبيته لكل شيء، و خلقه لكل شيء، و ملكه لكل شيء، وانتفاء الشريك عنه على الإطلاق، و القرآن مشحون من هذه النسبة كقوله تعالى : { يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ} [الرعد: 27] ، و قوله : {أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ } [الصف: 5] ، و قوله : {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] ، و قوله : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا} [الإسراء: 16] ، إلى غير ذلك من الآيات، و لم ينشأ خطؤهم هذا إلا من جهة ما قصروا في البحث عن روابط الأشياء و آثارها وأفعالها فحسبوا كل واحد من هذه الأمور الموجودة أمرا مستقل الوجود منقطع الذات عما يحتف به من مجموعة الأشياء و قبيل المصنوعات و ما يتقدم عليها و ما يتأخر عنها.

و لزم ذلك أن يضعوا الحوادث التي هي نتائج تفاعل الأسباب و العلل على ما فطرها الله عليه في مسير السببية متقطعة متفرقة غير متصلة و لا مرتبطة فكانت كل حادثة حدثت عن أسبابها و كل فعل فعله فاعله منقطع الوجود عن غيره مملوكا لصاحبه ليس لغير سببه المتصل به فيه نصيب ولا في حدوثه حظ، فأجرام تدور، و بحر تسري و فلك تجري، و أرض تقل، و نبات ينبت، و حيوان يدب، و إنسان يعيش و يكدح لا التيام روحي معنوي يجمعها و لا وحدة جسمية من المادة و قوتها : توحدها.

ثم تعقب ذلك أن يظنوا نظير هذا الانفصال والتلاشي بين عناوين الأعمال و صور الأفعال من خير و شر، و سعادة و شقاوة، وهدى و ضلال، و طاعة و معصية و إحسان و إساءة، وعدل و ظلم، و غير ذلك فكانت غير مرتبطة الوجود و لا متشابكة التحقق.

وقد ذهلوا عن أن هذا العالم بما يشتمل عليه من أعيان الموجودات و أنواع المخلوقات مرتبط الأجزاء متلائم الأبعاض، يتبدل جزء منه إلى جزء، و يتحول بعضه إلى بعض، فيوما إنسان، و يوما نبات، و يوما جماد، و يوما جمع، و يوما فرق، و حيوة البعض بعينها ممات الآخر، و كون الجديد منه فساد للقديم بعينه.

و كذلك الحوادث الجارية مرتبطة ارتباط حلقات السلسلة أي وضع فرض لواحدة منها مؤثر في أوضاع ما يقارنها و ما يتقدمها إلى أقدم العهود المفروضة للعالم الطبيعي كالسلسلة التي تنجر بجر الحلقة منها جميع الحلقات و هو السلسلة فأدنى تغير مفروض في ذرة من ذرات هذا العالم يوجب تغير الحال في الجميع، و إن عزب عن علمنا و إدراكنا أو خفي عن إحساسنا فعدم العلم لا يستلزم عدم الوجود، فهذا مما بينت في الأبحاث العلمية منذ القديم، و أوضحته الأبحاث الطبيعية و الرياضية اليوم أتم إيضاح، و لقد كان القرآن ينبئنا بذلك أحسن الإنباء قبل أن نأخذ في هذه الأبحاث من فلسفيها و طبيعيها و رياضيها بالنقل عن كتب الآخرين ثم بالاستقلال في البحث، و ذلك بما يذكر من اتصال التدبير في الآيات السماوية و الأرضية، و ارتباط ما بينها، و نفع بعضها في بعض، و اشتراك الجميع في إقامة غرض الخلقة، و نفوذ القدر في جميعها و السلوك إلى المعاد، و أن إلى ربك المنتهى.

وكذلك أوصاف الأفعال و عناوين الأعمال مرتبطة الأطراف كارتباط الأمور المتقابلة المتعاندة فلو لا أحد المتعاندين لم يستقم أمر الآخر كما نشاهده من أمر الصنع والإيجاد أن تكون شيء ما يحتاج إلى فساد آخر، و سبق أمر يتوقف على لحوق آخر.

ولو لم يتحقق أحد الطرفين من أوصاف الأعمال لم يستقم أمر الآخر في آثاره المطلوبة منه في الاجتماع الإنساني الطبيعي، و لا في الاجتماع الإلهي الذي هو الدين الحق، فإن الإطاعة مثلا حسنة لأن المعصية سيئة، و الحسنة موجبة للثواب، لأن السيئة موجبة للعقاب، و الثواب لذيذ للعامل لأن العقاب مولم له، و اللذة سعادة مرغوب فيها لأن الألم شقاوة مهروب عنها، و السعادة هي التي يتوجه وجوده بحسب الخلقة إليها و الشقاوة هي التي يتوجه عنها، ولو لا هذه الحركة الوجودية لبطل الوجود.

فالإطاعة ثم الحسنة ثم الثواب ثم اللذة ثم السعادة هي بحيال المعصية فالعقاب فالألم فالشقاء و إنما يظهر كل منها بخفاء ما يقابله و يحيى بموته، و كيف يمكن أن تقع دعوة إلى شيء من غير تحذير عما يخالفه؟ و كيف يمكن أن يكون خلافه ممكنا دون أن يكون واقعا بما يدعو إليه من الأغراض و الميول؟.

فقد تبين من ما ذكرناه : أن الواجب في الحكمة أن يشتمل هذا العالم على الفساد كما يشتمل على الصلاح و على المعصية كما يشتمل على الطاعة على ما قدره الله في نظام صنعه و خلقه غير أن الكون و الفساد في غير الأعمال و أوصافها ينسبان إلى الله سبحانه لأن الخلق و الأمر له.

لا شريك له و قبيل السعادة من الأعمال تنسب إليه بالهداية نسبة مستقيمة و قبيل الشقاوة منها كوسوسة الشيطان و تسليط الهوى على الإنسان و تأمير الظالمين على الناس و نحو ذلك ينسب إليه تعالى بالإضلال و الإخزاء و الخذلان و نحوها نسبة غير مستقيمة، و هي التي يعبر عنها بالإذن فيقال : إنه تعالى أذن للشيطان أن ينزع بالوسوسة و التسويل، و لم يمنع الإنسان أن يتبع الهوى، و لم يضرب بين الظالم و ما يريده من الظلم بحجاب لأن السعادة و الشقاوة مبنيتان على الاختيار، فمن سعد فباختياره، و من شقي فباختياره، و لو لا ذلك لم تتم الحجة، و لم تجر سنة الاختيار و الامتحان.

ولم يمنع هؤلاء الباحثين عن الاسترسال في هذه المباحث إلا استيحاشهم من وخيم نتائجها بزعمهم، فأما المجبرة منهم فزعموا أن لو قالوا بارتباط الأشياء و ضرورة تأثير الأسباب و اعترفوا بذلك لزمهم الإيجاب في جانب الصانع تعالى و سلب قدرته المطلقة على التصرف في مصنوعاته.

وأما غيرهم فزعموا أن لو أذعنوا بذلك في مرحلة الأعمال و أسندوها إلى إرادته و قدره تعالى لزمهم القول بالإيجاب و الإجبار في جانب المصنوع و هو الإنسان، و ببطلان الاختيار يبطل الثواب و العقاب، و التكليف و التشريع.

مع أنهم كان يسعهم أن يستأنسوا من غير استيحاش بكلامه تعالى حيث يقول : {وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ } [يوسف: 21] و يقول : {أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ} [الأعراف: 54] و يقول : {لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [يونس: 55] ، على أنها و ما يماثلها آيات تعطي البرهان في ذلك، و قد تقدمت نبذة من هذا البحث في الكلام على قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا} [البقرة: 26].

____________________

1. تفسير الميزان ، ج3 ، ص 77-90.

تفسير الامثل
– ذكر الشيخ ناصر مكارم الشيرازي في تفسير هذه  الآيات (1) :

بعد بيان مواقف الكفّار والمنافقين والمؤمنين من الآيات «المحكمات» و«المتشابهات» في الآيات السابقة، تقول هذه الآية : إذا كان الكفّار المعاندون يحسبون أنّهم بثرواتهم وأبنائهم قادرون على الدفاع عن أنفسهم في الآخرة فهم على خطأ كبير، فهذه الوسائل قد يكون لها تأثيرها المؤقت في هذه الدنيا، ولكنّها عند الله لن يكون لها أيّ تأثير، لا في هذه الدنيا ولا في الآخرة. لذلك ينبغي ألاّ يغترّ الإنسان بهذه الأُمور فتحمله على إرتكاب الإثم، وإلاَّ فإنّه يصلى ناراً سيكون هو حطبها.

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ} [آل عمران: 10] (2).

يفيد هذا التعبير أنّ نار الجحيم مستعرة بوجود المذنبين، وهؤلاء المذنبون هم الذين يديمون أوارها ولهيبها. نعم ثمّة آيات تقول إنّ الحجارة أيضاً تكون وقود نار جهنم بالإضافة إلى المذنبين. ولكن ـ كما قلنا في تفسير الآية 24 من سورة البقرة في الجزء الأول ـ يمكن أن تكون هذه الحجارة هي الأصنام التي كانوا ينحتونها من الحجر. وعليه فإنّ نار جهنّم تستعر بأعمال المذنبين وبمعبوداتهم الباطلة.

ثمّ تشير الآية إلى نموذج من الاُمم السالفة التي كانت قد اُوتيت الثروة الإنسانية والمادية الكثيرة، ولم تستطيع هذه الثروة أن تكون مانع من هلاكهم.

(كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كذبوا بآياتنا فأخذهم الله بذنوبهم والله شديد العقاب).

«الدأب» إدامة السير، والعادة المستمرّة دائماً على حالة واحدة. فهذه الآية تشبّه حال الكفّار المعاصرين لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان آل فرعون قد اعتادوا عليه ـ وكذلك الأقوام السابقة ـ من تكذيب آيات الله، فأخذهم الله بذنبهم وأنزل بهم عقابه الصارم في هذه الدنيا.

هذا في الواقع إنذار للكافرين المعاندين على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لكي يعتبروا بمصير الفراعنة والأقوام السالفة، ويصحّحوا أعمالهم.

صحيح أنّ الله «أرحم الراحمين» ولكنه في المواضع ومن أجل تربية عبيده «شديد العقاب» أيضاً، ولا ينبغي أن يغترّ العبيد برحمة مولاهم الواسعة أبداً.

يستفاد أيضاً من «الدأب» أنّ هذه الإتّجاه الخطأ ـ أي العناد إزاء الحقيقة

وتكذيب آيات الله ـ أصبح عادة ثابتة فيهم، ولهذا يهدّدهم بعذاب شديد، وذلك لأنّه ما دام الإثم لم يصبح عادةً ونهجاً في الحياة فإنّ الرجوع عنه ميسور وعقابه خفيف، ولكنّه إذا نفذ إلى داخل أعماق الإنسان فالرجوع عنه متعذّر، والعقاب عليه شديد. فخير للكافرين أن ينتهزوا الفرصة قبل فوات الأوان ويرجعوا عن طريق الضلال.

{ قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ}

مع ما تقدّم في سبب النزول يتضح أن الكفّار المغرورين بأموالهم وأولادهم، وعددهم وعدّتهم يتوقعون هزيمة الإسلام، ولكن القرآن الكريم يصرح في هذه الآية بأنهم سيُغلبون، ويخاطب النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن يخبرهم بذلك وأن عاقبتهم في الدنيا والآخرة ليست سوى الهزيمة والذلّ والعذاب الأليم : { قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ } [آل عمران: 12] (3).

تنّبؤ صريح :

هناك أخبار غيبية كثيرة في القرآن الكريم تعتبر من أدلة عظيمته وإعجازه. والآية أعلاه واحدة من هذه الأخبار الغيبية.

وفي هذه الآية يبشّر الله نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالانتصار على جميع الأعداء، وينذر الكافرين بأنّهم فضلاً عن اندحارهم في هذه الدنيا، فإنّ لهم في الآخرة شرّ مصير.

إذا لاحظنا سبب نزول الآية، وكونها نزلت بعد فشل المسلمين في أُحد، 0وظهور ضعفهم الظاهري، وازدياد قوّة الأعداء باتّحادهم وتكاتفهم فإنّ هذا التنبّؤ الصريح وعلى الأخصّ عن المستقبل القريب : (ستُغلَبون) يكون أمراً مثيراً للإنتباه. ومن هنا يمكن اعتبار هذه الآية من آيات إعجاز القرآن، لوجود هذا التنبّؤ عن المستقبل فيه، في الوقت الذي لا تشير فيه الظواهر إلى احتمال انتصار المسلمين على الكفّار واليهود.

ولم تمض فترة طويلة حتّى تحقّقت نبوءة الآية وهُزم يهود المدينة «بنو قريضة، وبنو النضير»، وفي خيبر ـ أهم معقل من معاقلهم ـ اندحروا وتلاشت قواهم. كما هُزم المشركون في فتح مكّة هزيمة نكراء.

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}

معركة بدر والتأييد الإلهي :

تعقيباً على الآيات السابقة التي حذّر القرآن فيها الكافرين من الاغترار بالمال والأبناء والأتباع، جاءت هذه الآية شاهداً حيّاً على هذا الأمر، فتدعوهم إلى الاعتبار بما جرى في معركة بدر التاريخية.

{قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ}.

كيف لا تكون لهم عبرة، وهم يرون أنّ جيشاً صغيراً لا يملك شيئاً من العدّة، سوى الإيمان الراسخ، ينتصر على جيش يفوقه أضعافاً في العدد والعدّة. فلو كان المال والعدد ـ بغير إيمان ـ قادرين على شيء لظهر مفعولهما في معركة بدر، ولكن النتيجة كانت معكوسة.

{يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ}.

تقول الآية : إنّ الكفّار كانوا يرون جند المسلمين ضعف عددهم. أي أنّهم إذا كانوا 313 شخصاً كان الكفّار يرونهم أكثر من 600 شخص(4). ليزيد من خوفهم، وكان هذا أحد أسباب هزيمة الكفّار.

وهذا ـ فضلاً عن كونه إمداداً غيبياً من الله انتصر به المسلمون، لأنّ الله يمدّ عباده المجاهدين المؤمنين بمختلف السبل ـ كان أمراً طبيعياً من حيث جانبه الظاهري، وذلك لأنّ الضربات الشديدة التي أنزلها المسلمون ـ بقوة إيمانهم وتربيتهم الإسلامية ـ على الأعداء، أثارت فيهم الرعب والهلع فظنّوا أنّ هناك قوّة وسنشرح معركة بدر شرحاً وافياً عند تفسير الآيات 41 ـ 45 من سورة الانفال.

أُخرى التحقت بالمسلمين، ولذلك ظنّوا أنّ المسلمين يحاربون بضعف قوّتهم الأُولى ويسيطرون على ميدان الحرب سيطرة تامّة، مع أنهم قبل الدخول لم يكن يخطر لهم ذلك أبداً، بل كانوا يرون المسلمين أقلّ ممّا كانوا عليه. في الآية 44 من سورة الأنفال إشارة إلى ذلك أيضاً {وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا}.

تذكّروا يوم لقائكم بهم في ميدان الحرب، فقد أظهرناكم في أعينهم قلّة لكي لا يتجنّبوا حرباً ستؤدّي إلى هزيمتهم ـ كما أظهرناهم في أعينكم قلّة لكي لا تضعف معنوياتكم في حرب مصيرية ـ . وما أن بدأ الحرب حتّى تبدّلت المشاهد، وظهر المسلمون في أعين الأعداء بأعداد مضاعفة، فكان هذا واحداً من أسباب هزيمتهم.

وجاء في بعض الروايات أن أحد المسلمين قال : قبل نشوب القتال في بدر قلت لرفيق لي : ألاّ تظن أن عدد الكفّار سبعون نفراً ؟ فقال : إني احسبهم مائة نفر، ولكن عندما انتصرنا في الحرب وأسرنا منهم عدداً غفيراً سمعنا أن عددهم ألف نفر(5).

{وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ}.

تشير الآية إلى حقيقة أنّ الله ينصر من يشاء. لقد سبق أن قلنا إنّ مشيئة الله وإرادته لا تكون بغير حساب، بل هي تكون بموجب حكمته وفي حدود لياقة الأفراد، أي أنّ الله يؤيّد الذين يستحقّون ذلك.

جدير بالذكر أنّ النصر الإلهي للمسلمين في الحادثة التاريخية كان ذا جانبين، فقد كان «نصراً عسكرياً» و «نصراً منطقياً». فمن الناحية العسكرية :

انتصر جيش صغير مفتقر إلى المعدّات الحربية على جيش يبلغ أضعافه عدداً وإمكانات. ومن الناحية المنطقية : فإنّ الله كان قد أخبر المسلمين صراحة بهذا النصر قبل بدء الحرب.

{إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ}.

في ختام الآية يؤكّد سبحانه أنّ الذين وهبوا البصيرة بحيث يرون الحقائق كما هي، يعتبرون بهذا الانتصار الذي أحرزه أُناس مؤمنون، ويدركون أنّ أساس هذا الانتصار هو الإيمان… الإيمان وحده(6).

____________________

1- الامثل ، ناصر مكارم الشيرازي ، ج2، ص208-214.

2 ـ سبق أن قلنا إنّ «الوقود» هو ما تشتعل به النار كالحطب، لا ما تشتعل به النار كالكبريت.

3 ـ «مهاد» بمعنى المكان المهيأ، كما يقول الراغب، وهي في الأصل من مادة (مَهْد) وهو محل استراحة الطفل.

4 ـ هذا التفسير يعتمد على إرجاع الضمير في «يرون» إلى الكفّار، والضمير «هم» إلى المسلمين. وهذا اوضح التفاسير العديدة للآية.

5 ـ تفسير القرطبي : ج 2 ص 1268.

6 ـ «عبرة» في الأصل من مادة «عبور» بمعنى الانتقال من مرحلة إلى اُخرى أو من مكان إلى آخر ويقال لدمع العين «عَبرة» على وزن «حسرة» لأنه يعبر من العين، ويقال للكلمات التي تمر من خلال اللسان والاُذن «عبارات» أيضاً وكذلك يقال للحوادث «عِبرة» لأجل أن الإنسان عندما يراها يعلم بمخلفاتها من الحقائق.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى