مقالات

بين الحنين إلى الأوطان ودحض الطغيان

ما أروع وطئ تلك القدمين العظيمتين التي رغم تباطؤ خطواتها وتراجعها حنيناً إلى موطنها, إلا إنها بتجوالها وسيرها المكره إلى بلاد الغربة, قد قلبت رمال الصحراء القاحلة إلى حبات من ذهب مصفى, وحولت الأرض الجرداء إلى واحة خضراء, وأوقدت بسيرها تلك الليالي الظلماء الحالكة. إنها الهجرة القسرية الإجبارية التي عانى منها أهل بيت النبوة (عليهم السلام) وأتباعهم حيث عمد أهل الكفر والعناد والظلم والحاقدون على الدين الإسلامي على الإبادة الجماعية أو التهجير التي هي أعظم من القتل على الإنسان حيث يُرغم على ترك موطنه وبيئته التي عاش وترعرع فيها وتعلق قلبه بها. فهذا غريب طوس الإمام الرضا (عليه السلام) الذي أُجبر من قبل طاغية زمانه المأمون العباسي إلى الرحيل عن مدينة جده النبي المصطفى (صلى الله عليه وآله) وترك الأهل والأحباب إلى بلاد بعيدة وبيئة جديدة وأناس لا يتكلمون بلغته ولا يعرفون من الدين الإسلامي سوى شكله, وكان يعلم حينئذ إن رحلته هذه ليست لها رجعة أبداً, إذن فلابد له (عليه السلام) من الصبر وتجرع مرارة الألم والغربة بدلاً من القتل المحتم من أجل الحفاظ على الدين الإسلامي ونشر عقيدة وفكر أهل البيت (عليهم السلام) وترسيخها في قلوب الناس, فكانت هذه أهم الإيجابيات وأكبر الأهداف التي حققها الإمام (عليه السلام) في هجرته, قال تعالى:( وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ) , كما إن لهذه الهجرة آثار مشرقة وبركات كثيرة حيث تعرّف الناس على الإمام وأحبوه لما رأوا منه من كمالات روحية حيث يقفون إجلالاً لهيبته ويعجبون من سحر كلامه وعذوبة قوله وطيبة أخلاقه التي تحاكي أخلاق الأنبياء, ودفاعه المستميت عن حقوق المستضعفين منهم, وما رأوه منه (عليه السلام) من المعجزات العظيمة والكرامات الجليلة والحوادث الباهرة التي تذهل الألباب من خلال مسيرته الطويلة من المدينة المنورة إلى خراسان, وأيضاً عند تنقله بين البلدان هناك, مما زاد في شعبيته عند الناس وعرفوا بذلك إن له منزلة عظيمة ومكانة كبيرة عند الله تعالى, وهذه من العوامل الرئيسية التي جعلت من إيران دولة مُحبة لأهل البيت (عليهم السلام) ومؤمنة بعقيدتهم. لهذا تعد هجرة الإمام (عليه السلام) ضربة معاكسة لأعدائه, وأولهم المأمون الذي توهم بأنه سوف يسيطر عليه من خلال إبعاده عن مدينة جده (صلى الله عليه وآله) وإحضاره إلى خراسان, فبدل أن يقيد الإمام (عليه السلام) بقيود ولاية العهد ويدعو بواسطته إلى الامتثال لأوامره وإلى خلافته, ولكنه (عليه السلام) قد أسقط جميع الأقنعة المزيفة وكشف الأستار عن الحقائق المغلفة بأوهام بني العباس الذين أرادوا إبعاد الناس عن أحقية أهل البيت (عليهم السلام), ليظهر للناس زيفهم ومكرهم ويتيقنوا بأحقية التشيع حتى للمخالفين وأصحاب الديانات الأخرى ومن مختلف الدول من خلال المناظرات والمحاججات التي كان يقيمها المأمون في بلاطه, وأفشل الإمام (عليه السلام) بذلك كل المخططات وبهذا أنقلب السحر على الساحر ووقع في حفرة مكره وخداعه, وبهذا أصبح الإمام (عليه السلام) نجماً لامعاً في سماء الغربة يضيء دروب التائهين والضالين ويهديهم بعلمه وحكمته إلى صراط الله المستقيم. ونحن نقول لكل الذين هاجروا وتركوا ديارهم وأموالهم وأهليهم مكرهين, بأن يصبروا ولا يجزعوا ويقتدوا بأئمتهم (عليهم السلام), فرب ضارة نافعة ولابد أن تدور الدوائر وينتصر الحق ويزهق الباطل, وما حدث من تهجير في الحقبة السابقة خير دليل على ذلك, فلولا هجرة أتباع أهل البيت (عليه السلام) إلى الدول الغربية المختلفة لما انتشر التشيع في هذه المدن ولما وصل صوت الدين الحقيقي إليها, قال تعالى:( وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى