مقالات

الأمة بين الانقلاب والثبات

تمر بعض الأحداث على ساحة الحياة مر السحاب بحيث أنها تنسى وتتلاشى بعد مرور وقت يسير من الزمن عليها، بينما هناك أحداث جسام تخلف بعدها أثراً بالغاً يمتد مع امتداد الحياة، وما حدث في الثامن والعشرين من شهر صفر كان أمر غيرَ مسار الأمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى،

إذ لم تكن وفاة خاتم الرسل وسيد البشرية(صلى الله عليه وآله) مجرد حدث عابر في التأريخ، وأنى يكون ذلك،

بل أنه أحدث شرخاً كبيراً في جسد الأمة وغيَّر في منهج حياتها، فقد انقطع الوحي وأفلتْ شمس النبوة من سمائها وتلاشى دفئها فراحت في صقيل التيه ترعى؛ فُقد القطب الذي تتمحور حوله وذهب عنها سقف حماها وغدت عرضة لريح صرصر عصفت بها إلى بحور الفتنة تتلاطمها أمواج الشتات والتفرقة، وفي وسط ذلك عاد صوته (صلى الله عليه وآله) يطرق الأسماع وهو يردد التحذير الإلهي الذي أشار وبشكل صريح إلى هذه اللحظة وحذر منها قائلا عز من قائل:(وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ) ، ومن هنا تقف الأمة أمام ميزان عقلها وهي مخيرة مابين كفتي الانقلاب على الأعقاب أو الثبات على نهجه(صلى الله عليه وآله) والالتزام التام بما أمر به وما نهى عنه. الانقلاب يمثل الانقلاب في حياة الإنسان نقطة التحول من حالة إلى حالة ومن رأي إلى آخر، ويترتب عليه أمور كثيرة على حسب نوعه و ماهيته، وبلا شك أن الانقلاب الفكري هو الأكثر تأثيراً من غيره على الفرد لما له من مردودات إيجابية كانت أم سلبية تقع عليه حتى أنها تتعدى حدود الحياة المادية فيتوقف عليها مصيره في آخرته أيكون من أهل الجنة أم النار؟ لذلك قبل القدوم على الانقلاب يجب على الإنسان أن يقف عند هذا المفصل المهم كثيراً ويتأمل فيه ملياً قبل اتخاذ قراره الحاسم. وقد أعطى عز وجل الأمة الإسلامية إشارة إلى حالها من بعد غياب شخصه(صلى الله عليه وآله)، فأمر نبيه أن يبلغ بهذا الحدث الجسيم قبل وقوعه وأن يعطي الخطة الإستراتيجية الإلهية المرسومة لهم من بعده فقام(صلى الله عليه وآله) خاطبا بالناس عند غدير خم قائلاً لهم:( أني أوشك ان أدعى فأجيب، وأنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، وأن اللطيف الخبير أخبرني أنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، فانظروني بم تخلفوني فيهما) ، لم تدرك العقول آنذاك معنى هذا الانقلاب وكيفيته حتى حدث وبانت معالمه وآثاره على وحدة الصف وتفرقته إلى عشرات الفرق ، وانكشفت حقيقة من لازموا أسم الإسلام وخالفوا مضمونه، حيث تركوا كتابهم ونسوا نبيهم واتبعوا شيطانهم حين استنهضهم، واتخذ منهم أبواقاً لينعق بالتفرقة والتحزب وسط هذه الأمة، حتى أمسى بها الأمر إلى ما لا يحمد عقباه بدءاً من قتل العترة الطاهرة إلى مخالفة القرآن الكريم والسنة الشريفة(قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى) ، ثم مخالفتهم للسنة وحكمه عز وجل في وجوب حفظ حرمة النفس وتحريم قتلها و إيذائها(قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ،..، وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) ، وما أوصى به(صلى الله عليه وآله) في حفظ الحرمة بعد الموت حتى أصبح من المتعارف عليه عند العامة والمسلمات به عندهم، وأين تلك الأمة من ذلك وهي ترمي نعش الإمام المفترض الطاعة وسبط رسول الله(صلى الله عليه وآله) الحسن المجتبى(عليه السلام) بالسهام من بعد أن فرت كبده بسم زعاف ومنه تنتقل إلى كربلاء وهي تقتل إمام عصرها وتدوس عليه بحوافر خيلها وتقطع الرؤوس وتذبح الرضيع وتسبي النساء؟، وقد بينت السيدة زينب الحوراء(عليه السلام) مضمون هذا بخطابها في مجلس الطاغية والذي ما زال التأريخ يحمل صداه فيطرق به أسماع من كان بهم وقرا ويقرع على القلوب التي ران عليها البغض والعداء لبيت النبوة ومعدن الرسالة، متضمنة للمعنى الحقيقي والواقعي لتخلف الأمة عن نبيها وانقلابها ومخالفتها له، وأدبارها لأمر الله ورسوله وهنا نستعرض موضع الشاهد من خطابها تلافيا للإسهاب والإطالة حيث افتتحت خطابها بقوله تعالى: (صدق الله سبحانه حيث يقول(ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاؤُوا السُّوأَى أَن كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِؤُون) . وحول وجوب مودة العترة وحفظ الحرمة قالت(ع):(أمِنَ العَدْلِ يا ابنَ الطُّلَقاء تَخْديرُك حَرائرَك وإماءَك وسَوْقُك بناتِ رسول الله سَبايا، قَدْ هَتَكْتَ سُتورَهنّ، وأبْدَيتَ وجُوهَهُنّ، تَحْدوا بِهِنّ الأعداءُ مِن بَلَد إلى بَلَد، ويَسْتَشْرِفَهنّ أهلُ المناهل والمَعاقِل،……، مُنَحَنِياً على ثَنايا أبي عبد الله سيد شباب أهل الجنة تَنْكُتُها بِمِخصَرَتك، وكيف لا تقول ذلك وقد نَكأتَ القُرْحةَ واستَأصَلْتَ الشأفة، بإراقَتِك دِماء ذرية محمد(صلى الله عليه وآله)، ونجوم الأرض من آل المّطلب) . كما نجد الترابط واضحاً بين ما عرجت عليه(عليه السلام) في خطبتها وما تحدث عنه رسول الله حول ورود الأمة عليه في يوم القيامة حين قالت ليزيد لعنة الله عليه:(وتهتف بأشياخك زعمت أنَّك تناديهم فلتردن وشيكا موردهم، ولتودّن أنّك شُلِلت وبَكُمت ولم تكن قلت ما قلت وفعلت ما فعلت؟!، اللهُمَّ خُذْ لنا بِحَقّنا، وانتَقِمْ مِمن ظلمنا، واحْلُلْ غَضَبَكَ على مَن سَفَكَ دِماءَنا، وقَتَلَ حُماتَنا. فو الله ما فَرَيتَ إلا جِلْدَك، ولا حَزَزْتَ إلا لَحْمَك، ولتَرِدنَ على رسولِ الله(صلى الله عليه وآله) بما تَحَمّلْتَ مِن سَفكِ دِماء ذُريّتِه، وانتَهَكْتَ مِن حُرْمَتِه في عترته ولحمته، حيثُ يُجْمَعُ الله شَمْلُهم، ويُلَمُّ شَعَثُهُم ويأخُذُ بحَقّهِم(وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) ) . الثبات مما تقدم نستدل بأن ذلك الانقلاب في الأمة لم يكن إلا نتيجة انجراف النفس خلف الهوى لعدم رسوخ قواعد اليقين في جوفها، فحين أرادت أن تشيد صرح الإيمان في داخلها لم تبذل جهدا في الغوص إلى أعماق النفس لتبني لها أساساً متيناً لا يتأثر بالمؤثرات الخارجية وإن كانت في أوج شدتها وقوتها، ورضيت في أن ترسي قواعده على هشيم الروح ورغبات النفس فتصبح مزعزعة ليس لها من قرار، تميل أينما مال الهوى فكان ما كان منها وكيف لا وهل للنتائج أن تسلم بمقدمات غير سليمة(أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، فتراها سرعان ما تتخلى عن مبادئها وتستبدل عقيدتها وتنجرف نحو الفتن وتستقبل المتغيرات التي تطرأ عليها وتتفاعل معها بسرعة شديدة، لذلك فإن الحصول على الثبات يستلزم لمقدمات كثيرة يجب على الإنسان أن يعمل بها ولا يبارحها أبداً وهذا ما ألزمنا به رسول الله(صلى الله عليه وآله) ووضحه للناس بكلام صريح مفهوم غير قابل للالتباس أو الاحتمال أو التشكيك حيث قال (وأنى تارك فيكم الثقلين كتاب الله عز وجل وعترتي، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي). و(الدوام والاستقامة على الجادة ولزوم الصراط المستقيم من غير عوج ولا انحراف، وعدم احتمال الزوال بتشكيك المشكل والثبات على الحق حتى الممات) ، أمر اشتركت به الأمة منذ غياب شخص رسول الله(صلى الله عليه وآله) وإلى يومنا هذا، إذ أنهم يواجهون تيارات التضليل والتشكيك التي تعمل على الدوام بما يتناسب مع كل زمان ومكان، حيث يشهد كل زمان سبلاً جديدةً تشاع على الساحة وفق مناهج وأفكار سوداوية تعمل على تعتيم الصورة وقلب مفاهيمها الحقة بتشويه صورة الحق وتزين الباطل، فقد شهد التأريخ التحريف بالسنة النبوية واختلاق الأحاديث المكذوبة والروايات المتنافية مع المنطق والفاقدة للموضوعية، ومن دس السم بالعسل وتزييف الحقائق إلى النفي والقتل والذبح على الهوية، أحداث جسام لم تنقطع مع انقطاع زمانها وأيامها المتداولة بين الناس لتلف حبل ظلمها حول الحقيقة كما القلادة حول أعناق النساء، حبل نسجه الشيطان وجعله في أيدي أنصاره من أهل ذلك الزمان من أنه وعد منجز أخذ من لدن الواحد القهار(قَالَ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ـ قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ) ، ونراهم على الدوام يبذلون قصارى جهودهم لبث غبار نفوسهم الشيطانية لحجب شمس الحقيقة وكسفها عن قلوب المؤمنين(يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ) ، وها نحن وبعد كل ما جرى وما يجري اليوم نشهد توجه جمهور المؤمنين من كل حدب وصوب وباختلاف الديانات والطوائف نحو كربلاء في العشرين من شهر صفر زحفاً على الأقدام لتحييَ ذكرى أربعينية الإمام الحسين(عليه السلام) هاتفة بصوت الحق(لبيك يا رسول الله نحن الثابتون على العهد والقول وبما أمرت من بعدك الملتزمون بالكتاب والعترة)، حتى أصبحوا مصداقاً لقول العقيلة عليها السلام لابن آكلة الأكباد يزيد لعنة الله عليه(فكِدْ كْيدَك، واسع سعيك وناصب جُهْدَك، فو الله لا تَمْحُو ذِكْرنا، ولا تميت وحينا).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى