مقالات

حول اطروحة المرجعيات المحلية وإشكالية غربة المنهج وأسس البحث العلمي

الدكتور راشد الراشد

تثار هذه الأيام قضية في غاية الأهمية والخطورة في آن معاً ، تتعلق بطرح يتعلق بالمرجعية المحلية بمعنى فتح الباب أمام قيادة المراجع المحليين شؤون وشجون الحوزة العلمية والمجتمعات المحلية التي يقيمون فيها ، مقابل عهود طويلة من الإعتماد على المرجعيات الخارجية والتي تتمثل حتى وقتنا الراهن بالعودة إلى حاكمية كلاً من حوزتي النجف الأشرف وقم المقدّسة على مقدرات وأوضاع أتباع مدرسة أهل البيت ”عليهم السلام“ في العالم .
وتنبع أهميته من الأهمية التي تقتضيها أمور البحث العلمي وضرورة وضع موضوعاتها على طاولات التحليل والبحث والمناقشة ، أما خطورتها في أنها تتعرض لواحدة من القضايا فائقة الحساسية من حيث بعدها العقائدي والإيديولوجي ومدى إرتباطنا بها وجدانياً وعاطفياً .
وهذه إطلالة على بعض جوانب القضية المطروحة تستهدف تشجيع البحث الفكري وضخ جرعات إيجابية في فضاءات التشخيص والتحليل وبناء الرؤية خاصة في الموضوعات التي تتصل بمعطيات الواقع وموضوعاته الملّحة .
هناك أربعة أسباب رئيسية تقف وراء ما يطرحه أصحاب وأنصار نظرية المرجعية المحلية :
أولاً : إن المرجع المحلي سيكون أدرى وأعرف بتفاصيل ومعطيات الواقع من المرجعيات المتواجدة خارج الحدود وبالتالي فإن بإمكانه معالجة المشكلات والموضوعات التي يعيشها المجتمع تكون أقرب إلى حيثيات الواقع ومعطياته . وستكون لديه القدرة بشكل أفضل لفهم طبيعة المجتمع وخصائصه النفسية والروحية وعاداته وتقاليده وما يشكل شخصيته وبالتالي سيكون المرجع المحلي هو الأقدر على التوجيه والإرشاد وطرح المعالجات ، حيث لا يقتصر دور المرجع على مجرد الإفتاء في أحكام العبادات والمعاملات .
ثانياً : يصر أنصار نظرية المرجعيات المحلية على أن فتح باب المرجعيات المحلية له شرعيته ومشروعيته من الإمام المعصوم ”عليه السلام“ الذي فتح الباب للإجتهاد بصورة مطلقة ولم يحدد إطاراً جغرافياً لحركة الإجتهاد ولم يعين مكاناً خاصاً لها وإنما طرح معايير تتعلق بالإجتهاد والعلم والمعرفة والتقوى .
ثالثاً : يقول أنصار نظرية المرجعيات المحلية هو أن ذلك يساهم في تعزيز دور الحوزة العلمية وتمكينها بصورة تكاملية يجعلها تشكل أضافة على حيوية تعدد وتنوع الإجتهاد في مدرسة أهل البيت ”عليهم السلام“ ، كما تساعد على تشجيع حركة الإجتهاد وتنميتها مما تعتبره إضافة لتعزيز قوة حركة الإجتهاد في فكر ومعارف وعلوم آل البيت ”عليهم السلام“ ..
رابعاً : يؤكد أنصار المرجعية المحلية بأن فتح الباب للمرجعيات المحلية أن تأخذ دورها في حياة المجتمعات يسهم في جعل فكر وعلوم ومعارف أهل البيت ”عليهم السلام“ تتسع لتكون علامة فارقة على مستوى الفكر الإنساني ، وهذا هدف في نظر أصحاب نظرية المرجعية يجب أن يتم السعي إليه وبذل الجهود من أجل تحقيقه .
كما يرى أنصار نظرية فتح الباب للمرجعيات المحلية بأن تجربة مركزية حاكمية المرجعية العليا وحصرها جغرافياً في مدينتي النجف الأشرف أو قم المقدّسة رغم كل الإنجازات الضخمة التي حققتها الحوزة العلمية في هاتين المدينتين المقدّستين من حفظ الدين وهيبة المذهب إلا أن حصر باب الإجتهاد العلمي والمعرفي في إطار جغرافي محدد له مخاطره ونتائجه السلبية . في أن حالة الجمود في حركة الفكر إذا طالت الحوزة لسبب من الأسباب فإن ذلك سينعكس سلباً على ما يفترض أن تمتع به حركة الإجتهاد عند الإمامية من حيوية وديناميكية .
وينبه أنصار اطروحة المرجعية المحلية أن الحوزة العلمية قد تتعرض لمعطيات سياسية معينة لظروف حادة قاهرة تحول دون قيام الحوزة العلمية بدورها العلمي والمعرفي والإجتماعي كما حدث في عهود طويلة من وجود الحوزة العلمية تحت طائلة أنظمة سياسية مستبدة وديكتاتورية فرضت قيودها على حركة الحوزة ومنعتها من التجديد أو التفاعل مع ما تتطلبه حركة الفكر والعلم والمعرفة ومع ما تتطلبه حركة الواقع في المجتمع من إسهامات وإستحقاقات تتطلب حضوراً وتواجداً وتفاعلاً مع معطيات الواقع وأن تصل تأثيرات تفاصيل ومعطيات الواقع للمرجع يتأثر ويؤثر به .
وقد تكون لطرح نظرية المرجعية المحلية عواملها الذاتية الخاصة من حيث طبيعة تشخيص المصالح والمنافع وتقديراتها ، أو من حيث كون بعض عواملها الذاتية نابعة من ردات فعل على بعض تحديات وسلبيات حاكمية المرجعية من بعد .
أما المدافعون عن حاكمية المرجعية من خلال حوزتي النجف الأشرف وقم المقدّسة فيرون ولعدة أسباب أهمية بقاء حاكمية المرجعية في هاتين المدينتين المقدّستين لجهة ضمان صيانة وحماية وحفظ المذهب من الأخطار المتعدّدة التي سوف تحيط بالحوزة العلمية فيما إذا فتح الباب للتعدد الجغرافي والمكاني لها وإمكانية خروج الحوزة عن مسارها الأخلاقي والعلمي والمعرفي والمنهجي التي كانت عليه هاتين الحوزتين والتي بسببها حافظت على حماية المذهب وبقائه إلى يومنا هذا رغم ما تعرضت له من تحدّيات قاسية وصعبة كانت تستهدف وجودها ، وأسباب أخرى تتعلق بتاريخ ومكانة حوزتي النجف وقم المقدّسة وضرورة تقدير دورهما التاريخي العظيم في حفظ المذهب .
هناك وجهان للطرح سواء فيما يتعلق بالمرجعيات المحلية أو حاكمية المرجعية في حوزة محدّدة كالنجف الأشرف أو قم المقدّسة ، بل وفيما يتعلق بأي أطروحة أو نظرية تستهدف التجديد والتطوير في أي من موضوعات الفكر ومناهج الحركة احدهما إيجابي والآخر سلبي .
فإما الوجه الأول وهو الإيجابي فيتمثل بطبيعة إتساع فكر مدرسة أهل البيت ”عليهم السلام“ لإستيعاب حركة الفكر الإنساني والحيوية التي يتمتع بها مقابل الجمود والركود ، وهي الكفيلة بوضع النظريات كافة في مكانها المناسب على طاولات البحث والمناقشة وهي الأساس والركيزة التي تقوم عليها تطور حركة الفكر الإنساني بما يتلاءم مع طبيعة التطورات المذهلة التي تحدث في عالم المدنية ويليها في عالم الآليات والوسائل التي تحقق أهداف الرقي في العلوم والمعارف الإنسانية . وأن مثل هذه الأطروحات ربما تفتح آفاقاً جديدة لتنمية الحوزة العلمية وتعزيز دورها وقدراتها في قيادة المجتعات الإنسانية بل الحضارة الإنسانية برمتها . وهذا يحتاج إلى مرونة كبيرة في الإنفتاح على الأفكار التي تطرح خاصة تلك التي تطرح من داخل بيت المدرسة الإمامية وخاصة عندما تكون علمية ومنهجية وتستهدف الإرتقاء والنهوض بالحوزة العلمية وتنمية جدارتها . وهذا وجه ينبغي تشجيعه بل والعمل على تنميته في صفوف المهتمين من أهل الفكر والعلم خاصة لتعزيز حيوية الفكر وخصوبته في المناقشة والتحليل وإستخلاص النتائج .
وأما الوجه السلبي فإنه يكمن عندما تنطلق الأفكار المطروحة من بواعث نفسية وعاطفية أو على ردات فعل شخصية على بعض الحيثيات والتجارب الخاصة . ونتائجه السلبية من خلق صراعات وصدامات تؤدي إلى الإضعاف بل التمكين والقوة .

.. كلاهما يطرح بتسفيه الآخر ..

فيما يحدث الآن من سجال حول النظريتين المتعلقتين بحاكمية الحوزة العلمية ، لابد من الإيضاح بإن هذا الموضوع ليس طارئاً أو جديداً بل تمت مناقشته قبل ثلاثة عقود وطرحته نخب علمائية وفكرية لها وزنها في الحوزة العلمية بل تسارعت تطورات مهمة أعقبت رحيل المرجع الديني الكبير السيد الخوئي وتبني سماحة السيد المرجع السيستاني فكرة إخراج المرجعية العليا من النجف الأشرف نظراً لوحشية تعاطي نظام صدام حسين الديكتاتوري مع الحوزة ومتعلقاتها وحركة عملها . بل يمكننا الإشارة إلى التأسيس لحوزة قم المقدّسة حيث لم تكن موجودة واليوم لايمكن تجاوز حجم تأثيرها وإنجازها على مستوى الأمة .
كنت اتمنى ان تطرح هذه القضية الحساسة في سياق إيجابي يعتمد على قواعد وأسس ومناهج البحث العلمي وبعيداً عن المشاعر والأحاسيس العاطفية والنفسية ، لكي تؤدي ثمارها في الحصول على الرافعات الإيجابية اللازمة لتحقيق أغراض تتكامل به جميع النظريات التي تحقق الأهداف السامية والإستراتيجية العليا التي يصبوا ويتطلع إليها جميع مراجع وفقهاء الأمة بل وأبناء الأمة جميعاً من الريادة العلمية بل وقيادة الحضارة الإنسانية الشاملة ..
إن الرّيادة العلمية وقيادة الحضارة الإنسانية تتطلب التأسيس لفكر ومنهجية .
و ايضا ينطبق الكلام على طرح مركزية المرجعية اذ يمكن طرحها بما تمتلكه من قوة ذاتية دون قصد ضرب رؤية آخرى يتبناها طرف وتيار إجتهادي قائم في الساحة …
العلم تحديدا لا مجال فيه للعواطف او خلط الاوراق بدوافع ”سياسية“ تتعلق بالنفوذ ومساحات التحكم والسيطرة ، فهذا أبشع ما يمكن تصوره .. اذ ان مضامير العلم مفتوحة لكل مجد و مجتهد بحراني كان أو عراقي أو هندي كان وساحات الإبداع والعطاء مفتوحة على مصراعيها بلا حدود للمجتهدين والمثابرين والذين يحملون تطلعات وطموحات مشروعة نحو الإرتقاء بالبيئة البنيوية وأسس وقواعد ومناهج البحث العلمي ..
منذ بدايات مبكرة اواخر القرن الماضي قام مجددون كبار كالإمام الخميني والشهيد السيد محمد باقر الصدر
و السيد المدرسي والمظفر والمطهري والشيرازي وغيرهم كثير من جهابذة العلم والمعرفة ومن مفاخر من أنجبتهم حوزاتنا العلمية من فقهاء ونخب علمية وفكرية وهم يطرحون التجديد والتطوير في المناهج وأدوات البحث العلمي ، وهاهي تجاربهم وأبحاثهم تزخر وتفيض بالتأصيل الفكري والمنهجي لمثل هذه الدعوات ، وتؤكد في ثناياها على أننا كأمة نحتاج إلى اعادة صياغة لمناهج التفكير بما يتوافق و هذا التقدم الهائل للحوزات و الجامعات فلا يصح ابدا ان تقفز العلوم قفزات هائلة في مختلف المجالات والموضوعات بسبب تعزيز وترسيخ قواعد البحث العلمي وتطوير مناهجه وآلياته بينما تلفنا حالة من الجمود والركود في هذا المضمار الحيوي الهام والضروري لتحقيق أية نهضة .
وبينما نشاهد مستويات التطور المذهلة التي حققتها مناهج البحث العلمي من حولنا في مختلف وسائر مجالات وميادين العلم والمعرفة ، فإننا لا نزال نتعاطى مع مناهج التفكير بخطوات مترددة ، وربما برهاب فكري خلفته سنوات طويلة من القمع والإضطهاد حالت بيننا وبين حرية البحث والتفكير ، ليكرس فينا حالة الجمود وعدم الحركة في عالم التفكير والبحث العلمي ، وذلك في محاولات تتسم بالعاطفة أكثر منها بالعلمية وبعيدة عن الأخذ بأسباب ومناهج البحث العلمي لتحبسنا من حيث الواقع في صوامع وقوالب فكرية وإجتهادات بشرية محددة لشخوص مارسوا حقهم في حرية الإجتهاد وحركة الفكر في فترات زمنية وتاريخية معينة وعاشوا وفق تفاصيل تعقيدات ظروفهم الإجتماعية والسياسية وتفاعلوا معها بما يستطيعون وفق إيقاعات واقعهم السياسي والإجتماعي المعاش .
إننا ، كأمة ، أمام تحدّيات لا متناهية وقاسية وصعبة ، وتتطلب لمجابهتها ومعالجة الكثير منها قدراً كبيراً من المرونة والإنقتاح في فضاءات التفكير ، وذلك فق ضوابطه وآلياته المشروعة وأسسه وقواعده العلمية ، كما أن تحقيق الرّيادة في سماء الفكر الإنساني وقيادة الحضارة الإنسانية تتطلب حيوية في التفكير وإشغال ”العقل“ ، وهذا ونتائجه في الرقي والتطور لن تحدث إلا بفك القيود ورفع الأغلال التي تمنع ”العقل“ من الحركة والإنطلاق .

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى